متابعة "طريق الشعب"
“تزفُّ عشائر حجام شهيدها البطل “عباس داخل حبيب” الذي استُشْهِدَ خلال التظاهرات السلمية، أخ حسن وحسين ومحمد…”، كُتِب هذا العزاء على لافتةٍ سوداء ما تزال معلقةً إلى جانب العلم العراقي على جدار بيت عائلة عباس في مدينة الشطرة التابعة لمحافظة ذي قار، وتُصرُّ العائلة على إبقاء اللافتة معلقةً إلى حين تحقيق المطالب التي قُتِلَ من أجلها عباس.
عباس هو أحد الضحايا الذين سقطوا في التظاهرات التي اندلعت في تشرين الأول الماضي، في العاصمة العراقية بغداد ومحافظات جنوب البلاد، احتجاجاً على الفقر والبطالة والفساد المستشري في رابع أكبر دولة منتجة للنفط في العالم.
الاحتجاجات التي تعد الأكثر دموية منذ العام 2003، والتي خرجت في تسع محافظات، أدت إلى مقتل نحو 330 متظاهراً وإصابة أكثر من 15 الفاً آخرين، بالرصاص الحي والمطاطي وبقنابل دخانية وأخرى “مسيلة للدموع” مختلفة الأحجام والأنواع، وبعضها ذات تأثيرات مميتة وأوقعت إصابات قاتلة، وبينها ذخائر منتهية الصلاحية، بحسب نشطاء ومنظمات ومراصد ومسؤولين.
بصوت مبحوح متقطع يحاول أن يغالب البكاء، يروي حسن قصة شقيقه عباس الذي قُتل بقنبلة غاز استقرت في جمجمته وهشمتها: “كان للتو قد أكمل عامه السابع عشر.. قرر أن يعمل بائعاً للسمك في سوق الشطرة ليساعدنا في توفير لقمة العيش.. لكنه ظل يحلم بالعودة الى الدراسة والحصول يوماً ما على وظيفة مناسبة لبناء مستقبله”.
“عندما بدأت الاحتجاجات ترك بسطيِّة السمك وشارك مع رفاقه في التظاهرات مثل آلاف الشباب العاطلين عن العمل والباحثين عن مستقبل أفضل.. كان مؤمناً بأنها الطريقة الوحيدة للضغط على الحكومة من أجل إيقاف الفساد”.. “لم يكن يحمل غير علم العراق، لكنهم قتلوه” يردد حسن قبل أن يختنق بعبرته.
ثم يضيف “قتلته الحكومة الفاسدة، قتلوه بقنابل الغاز المسيل للدموع التي يشترونها بأموالنا، إنَّها حكومة لا تعرف غير القتل! ماذا رأى من حياته غير الفقر والبطالة؟ خرج يطالب بحياة كريمة، لكنَّهم أعادوه إلينا جثةً مهشمة الرأس”.
التظاهرات التي انطلقت في الأول من تشرين الأول الماضي، بدعوات من نشطاء مدنيين وصحفيين على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يقودها محتجون شباب (تتراوح أعمارهم بين 15-30 عاماً) تطالب بإجراء إصلاحات شاملة في النظام السياسي، بدءاً باستقالة الحكومة وحلِّ البرلمان، وتغيير مفوضية الانتخابات، وإجراء انتخابات مبكرة بإشراف الأمم المتحدة، وصولاً إلى تعديل الدستور الذي يرون بأنَّه يكرس المحاصصة الحزبية والطائفية.
في الرابع من تشرين الثاني، وبعد تصاعد حدة التظاهرات، انسحب فوج مكافحة الشغب من مدينة الشطرة، حيث يعيش عباس، واستُبدِل بفوج طوارئ البصرة، وعندما حاصر متظاهرو الشطرة منزل حميد الغزّي الأمين العام لمجلس الوزراء، تدخل فوج الطوارئ لتفريقهم مطلقاً الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع، ما أوقع 15 إصابة، كانت بينها ثلاث إصابات خطرة نُقِلت إلى مستشفى الحسين التعليمي، لكنَّ اثنين من المصابين فارقا الحياة، كان أحدهما عباس.
أظهرت شهادة وفاة عباس داخل حبيب التي حصلنا عليها أنَّ سبب الموت هو: “كسور وتمزقات ونزيف في الرأس بسبب مقذوف ناري مستقر” دون ذكر نوعية هذا المقذوف، فيما تؤكد عائلته أنَّه قُتِل جراء إصابته بشكل مباشر بقنبلة غاز مسيل للدموع أو ما تُعرف بين المتظاهرين المحليين بـ “الدخانيَّة”.
في محافظة ذي قار، التي تشهد احتجاجات دامية وإضراباً عاماً في العديد من المؤسسات والقطاعات، وبحسب مسؤول كبير في دائرة الصحة، اشترط عدم الإفصاح عن هويته؛ استشهد 25 متظاهراً بقنابل الغاز المسيل للدموع، وأصيب 524 آخرين، وهذه الإحصائية للفترة من 1/10 ولغاية 12/11 لعام 2019. وبحسب المسؤول، فإنَّ دائرة صحة ذي قار لم تُصدر أيَّ إحصائية بعدد الضحايا منذ 25/10 بعد توجيهات مباشرة من قبل قائد شرطة المحافظة حينها محمد السعيدي، الذي أمر بأن تكون قيادة الشرطة هي الجهة الوحيدة المخولة بإعلان حصيلة ضحايا التظاهرات.
سألنا المسؤول في دائرة صحة ذي قار عن السبب الذي يدفع أجهزة الأمن الى منع دائرة الصحة من إعلان حصيلة الضحايا، فقال ان “الأعداد كبيرة جداً، والشرطة أو الأجهزة الأمنية عموماً تخشى غضب الأهالي عندما تُعلَنُ حصيلة الضحايا الحقيقية، هناك عشرات الإصابات يومياً، القتلى والمصابون تغص بهم مستشفيات المحافظة”.
رواية المسؤول في دائرة صحة ذي قار تُعززها إحصائية قدمها عدد من النشطاء المدنيين وممثلي التظاهرات في ذي قار إلى رئيس الجمهورية برهم صالح، ومن ضمن “ورقة مقترحة” قالوا إنَّها تمثل خارطة طريق لمستقبل عراقي آمن ذكروا أنَّ حصة محافظة ذي قار من الضحايا بلغت 42 قتيلاً وأكثر من 1200 جريح وأكثر من 573 معتقلاً.

شهادات “خط الصد الأول”

خلال التظاهرات استخدمت قوى الأمن “قنابل غاز مسيل للدموع مميتة” على نطاق واسع في العاصمة بغداد ومدن جنوب البلاد، وتوثق عشرات مقاطع الفيديو والصور والشهادات التي حصلنا عليها، إطلاق عناصر الأمن تلك القنابل بطريقة مباشرة على أجساد المتظاهرين، ما تسبب في وقوع عشرات القتلى والجرحى، وهي التي يفترض أنَّها مصنوعة لتفريق المتظاهرين.
في ساحة التحرير ببغداد، التي تشكل مركز الاحتجاجات، كما في ساحة الخلَّاني، وشارع السعدون، وبناية المطعم التركي، وبالقرب من جسر الجمهورية، الذي يعتبر خط الصد الأول بين المتظاهرين وقوات مكافحة الشغب التي تقطع الجسر لمنع المحتجين من العبور إلى المنطقة الخضراء التي تضم معظم مؤسسات الدولة، جمع معد التحقيق طوال أسبوعين، شهادات لعشرات المتظاهرين بينهم نشطاء، فضلاً عن أطباء يديرون مفارز طبية لإسعاف الجرحى.
مصطفى أحمد، أحد المتظاهرين الذين تعرضوا في ساحة التحرير إلى إصابة مباشرة في القدم بقنبلة غاز مسيل للدموع، يقول في شهادته: “تعرضت أكثر من مرة لقنابل غاز، المواد الكيمياوية فيها تشعرك باختناق شديد فلا تستطيع التنفس، لا يمكنك أن ترى ما حولك حيث يصعب عليك أن تفتح عينيك، كأنك تموت أو يغمى عليك”.
يؤكد مصطفى أنه تعرض في ثلاث مرات لقنابل غاز مسيلة للدموع منتهية الصلاحية: “كانت سنة انتهاء صلاحيتها تشير إلى العام 2014 وذلك يجعل سُميّتها أشد، لهذا فإنَّ التعرض لها خطير جداً.. لو جاءت الإصابة في الرأس أو الجسد فإنَّ النجاة تكون صعبة”.
“شاهدت بنفسي عددا من الشباب يسقطون شهداء بتلك القنابل خاصة على ضفة نهر دجلة قرب جسر الجمهورية، بعضهم استشهد بإصابات مباشرة في الرأس، وبعضهم الآخر بسبب الاختناق”. يتوقف مصطفى لبرهة وهو يضع يديه على وجهه ثم يضيف بكلمات مخنوقة “كانوا يتلوون من الألم ثم يسقطون على الأرض وسط سحابة من الدخان المتصاعد… هل هناك غاز مسيل للدموع يقتل بهذه الطريقة؟”.
سجاد جبَّار هو الآخر أحد ضحايا قنابل الغاز المسيل للدموع، شارك في التظاهرات منذ انطلاقها بداية تشرين الأول 2019، وما يزال حاضراً يقدم الدعم للمتظاهرين في ساحة التحرير وبناية المطعم التركي وجسر الجمهورية: “بحسب مشاهداتنا ومعلومات مسعفين نتواصل معهم، هنالك ثلاثة أنواع من قنابل الغاز المسيل للدموع: نوع يسبب الاختناق، ونوع يسبب الغثيان والدوار، ونوع يسبب فتح القنوات الدمعية بالعين، وهذه الأنواع جميعها تعرضت لها خلال مشاركاتي مع الشباب في التظاهرات وفي أكثر من مكان”.
يشير سجاد إلى أن أخطر ما في الأمر هو إطلاق تلك القنابل “بطريقة أفقية ومباشرة باتجاه المتظاهرين، متسائلا “لماذا أغلب الإصابات في الرأس والجزء الأعلى من الجسم”، ويردف “هل يريدون قتلنا.. ما نعرفه أنَّ تلك القنابل تستعمل لتفريق المتظاهرين لا لقتلهم. أنا أحد الذين أُصيبوا بقنابل الغاز، وكانت إصابتي في قدمي، وتعرضت لتجربة سيئة وخطرة لعدة أيام”.

المسعفون في مرمى القنابل

في ساحة التحرير، التي تشهد على مدار الساعة تظاهرات واعتصامات مفتوحة، وسقوط ضحايا، تتمركز مفارز طبية دائمة تقدم الإسعافات الأولية والخدمات الطبية للمتظاهرين.
سألنا إحدى الطبيبات عن مشاهداتها الميدانية، وافقت على التحدث شريطة ألا نذكر اسمها في التحقيق خوفاً على مستقبلها المهني كونها موظفة في إحدى مستشفيات العاصمة بغداد، لكنَّها ومنذ بداية الاحتجاجات في الخامس والعشرين من تشرين الأول تتواجد في ساحة التحرير وعلى مدار 14 ساعة مع أطباء آخرين لتقديم العلاج للمتظاهرين.
تقول الطبيبة: “لقد تعرضت شخصياً للإصابة بقنبلة غاز مسيل للدموع، أُلقيت على المفرزة الطبية، بينما كنا نسعف المتظاهرين المصابين، كانت الأعراض شديدة الألم، حيث ترتفع درجة حرارة الجلد بشكل كبير، وتتشنج عضلات العينين وتفقد القدرة على فتحهما بشكل طبيعي، وبالنسبة لي ساعدني زملائي على فتح عينيَّ بالقوة من أجل إعطائي قطرة (هاي فريش) وبقيت 15 دقيقة أعاني آلاماً قوية في العينين”.
“المفارز الطبية في ساحة التحرير وما حولها في خطر دائم” تؤكد الطبيبة، وتضيف: “في أية لحظة يمكن أن تسقط علينا قنابل غاز مسيل للدموع او حتى رصاص حي، المفارز مكشوفة في الشوارع، ومنتشرة لاستيعاب العدد الكبير من الجرحى، لكن لا ضمان لسلامة الأطباء، نحن هنا في ساحة حرب، هكذا تتعامل معنا الأجهزة الأمنية”.
في السابع من تشرين الثاني 2019 وخلال محاولته إسعاف المصابين على جسر الشهداء ببغداد، قُتل الطبيب عباس علي قائد المفرزة الطبية في شارع الرصافي، وأصيبت طبيبة كانت معه، واستطعنا الحصول على تسجيل مصور يوثق لحظة مقتل الطبيب عباس ومحاولة المتظاهرين إسعافه.
علي شميِّل، وهو طبيب آخر في المفارز الطبية لساحة التحرير، يحذر من مخاطر بعض نوعيات قنابل الغاز المسيل للدموع المستخدمة: “هذه النوعية من الغاز تستخدم في المعارك العسكرية، وليس في التظاهرات السلمية”. ويقول إنَّ “القنابل التي تُطلق تحتوي مواد كيماوية سُمَّية، واستنشاقها بكميات كبيرة يؤدي إلى تشنجات في الجهاز التنفسي والعضلي مما يسبب الوفاة”.
ويضيف “في المفرزة الطبية التي أتواجد فيها شهدتُ وفاة ثلاثة متظاهرين بعد أن استنشقوا جرعات كبيرة من الغاز تحت جسر الجمهورية، ومن لم يتهدده خطر الموت تعرض جهازه الهضمي الى الضرر أو توقفت بعض أعضائه عن العمل”.
“يوم 28/10/2019 استقبل مستشفى الجملة العصبية ببغداد 15 حالة وفاة، و721 حالة إصابة بقنابل الغاز المسيل للدموع”، ويشير دكتور شميل إلى أنَّ الخطر يتهدد الكوادر الطبية أيضاً: “تعرضنا لاستنشاق الغاز لفترات طويلة هنا في ساحة التحرير وجسر الجمهورية وساحة الخلاني وساحة النصر، فدخان القنابل لا ينقطع، ونحن الأطباء نتعرض للإصابة مثلما المتظاهرين، الجميع هنا في خطر دائم”.
ويعتقد الدكتور علي شميِّل أنَّ “تعتيماً كبيراً يحدثُ فيما يخص أعداد الضحايا والجرحى الذين يسقطون بتلك القنابل”.
تتطابق روايات بقية الشهود من المتظاهرين والأطباء والصحفيين، الذين التقاهم فريق التحقيق، مع الشهادات التي جرى توثيقها في هذا التحقيق، وتم الحصول على صور ومقاطع فيديو لمتظاهرين تعرضوا الى إصابات مباشرة في الرأس. وزوَّد أطباء في المفارز الطبية بساحة التحرير، فريق التحقيق، بالعديد من صور الأشعة السينية لضحايا قنابل الغاز المسيل للدموع، وتظهر جميعها تلك القنابل وقد انغرست في رأس الضحية وتسببت في تهشّم الجمجمة.
في 31 تشرين الأول 2019، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان: “العراق: وقوع مجموعة من الإصابات الشنيعة المميتة بسبب اختراق قنابل غاز جديدة مسيلة للدموع جماجم المحتجين” ذكرت فيه أن القنابل الصربية الصنع (سلوبودا تساتساك إم
Sloboda Ĉaĉak M99- 99) وقنابل غاز مسيل للدموع (إم 651 – M651) وقنابل دخان (إم 713 M713) المصنَّعة في إيران تقتل المتظاهرين في العراق.
وفقاً لمنظمة العفو الدولية هناك نموذجان من القنابل هما المسؤولان عن هذه الإصابات المميتة بين صفوف المتظاهرين هما: 40 مم من طراز إم 99 إس (
M99s) الصربي، الذي صنّعته شركة سلوبودا تشاتشاك (Sloboda Čačak) ووزّعتها شركة بلقان نوفوتيك (Balkan Novotech) وشركة يوغو إنبورت (Yugoimport) وقنابل 40 مم من نوع إل في (LV) من بينها قنابل غاز مسيل للدموع إم 651M651، وقنابل دخان إم 713 M713 من صنع منظمة الصناعات الدفاعية الإيرانية.
“على عكس معظم قنابل الغاز المسيل للدموع التي تستخدمها قوات الشرطة في جميع أنحاء العالم، يتم تصميم هذين النوعين على غرار القنابل العسكرية الهجومية المصممة للقتال. وقد وجد بحث أجرته منظمة العفو الدولية أنه نظرًا لوزنها وتركيبها، فإنها أكثر خطورة بكثير على المحتجين”.
وبحسب تقرير العفو الدولية فإنَّ قنابل الغاز المسيل للدموع النموذجية المستخدمة من قبل الشرطة في أنحاء العالم، والتي يبلغ قطرها 37 ملم، تزن ما بين 25 و50 غراماً، وتتكون من عدة عبوات أصغر تنفصل وتنتشر على مساحة ما. وفي المقابل، تتألف القنابل العسكرية الصربية والإيرانية المستخدمة من قبل العسكر والتي يبلغ قطرها 40 ملم، والموثق استخدامها في بغداد، من سبيكة ثقيلة واحدة، وهي أثقل وزناً بنحو 10 أضعاف، وتزن 220 إلى 250 غرامًا.
سارة ليا واتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش ذكرت خلال إفادتها في التقرير أن عدد القتلى المرتفع خلال التظاهرات في العراق يشمل أشخاصاً أصابتهم قنابل الغاز المسيل للدموع مباشرة في رؤوسهم، ويشير العدد إلى وجود نمط بشع وأنَّ الأمر ليس حوادث معزولة، لذا “ينبغي أن يكون جميع شركاء العراق العالميين واضحين في إدانتهم”.
وقالت واتسن: “بالنظر إلى تاريخ العراق الحافل بالاضطرابات المدنية والتدريب الدولي ليس فقط للعمليات العسكرية وإنما أيضا للسيطرة على الحشود، ينبغي للسلطات العراقية ألا تحصل على تصريح مجاني لإساءة استخدام الغاز المسيل للدموع كسلاح قاتل بدلا من كونه طريقة لتشتيت الحشود”.

طرف ثالث يقتل المتظاهرين

في العاصمة العراقية بغداد وقع العدد الأكبر من الضحايا باستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، وتحديداً في ساحة التحرير وجسر الجمهورية وساحة الخلّاني، حيث استخدمت قوات الأمن القوة المفرطة لقمع المتظاهرين ومنع تمدد رقعة انتشارهم وافشال محاولات سيطرتهم على ثلاثة جسور رئيسة.
الحكومة التي نفت في سلسلة تصريحات استخدامها القوة المفرطة، أقرَّت بعد أكثر من شهر على الاحتجاجات بوجود طرف ثالث غير القوات الأمنية هو من قتل المتظاهرين خلال الأسبوع الأول من تشرين الأول 2019 باستخدام الرصاص الحي، إلا أنَّ اللجنة التي تشكلت للتحقيق في الموضوع لم تتطرق في نتائجها إلى الاستخدام المتطرف لقنابل الغاز المسيل للدموع.
لجنة التحقيق كشفت عن الحصيلة النهائية لضحايا الموجة الأولى من التظاهرات والتي امتدت من 1/10 ولغاية 7/10/2019، وبلغ عدد القتلى خلالها 157 شخصاً فيما أُصيب 5494 آخرين في محافظات: بغداد والنجف وبابل والديوانية وميسان وذي قار وواسط والمثنى والبصرة.
بعد أسبوعين وتحديداً في 25/10/2019 انطلقت الموجة الثانية من التظاهرات الشعبية، ورغم وعود رئيس الوزراء بحماية المتظاهرين وتعهداته بأنَّ العنف الذي وقع في المرة الأولى لن يتكرر؛ إلا أنَّ أعداد القتلى تضاعفت وكذلك أعداد الجرحى، فقد أعلنت لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي مقتل 323 شخصاً وإصابة 15 ألفاً آخرين، وهذه الإحصائية تشمل الضحايا الذين سقطوا حتى تاريخ 12/11/2019.
الصحافي والناشط المدني أحمد الياسري، المهتم بتوثيق أعداد الضحايا، يؤكد أن حصيلة القتلى أكبر من الأرقام المعلنة: “الكثير ممن أصيبوا بقنابل الغاز المسيل للدموع والذين سجلتهم الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان على أنهم مصابون، ماتوا فيما بعد متأثرين بالإصابة، فبعضهم مات خارج العراق خلال نقلهم للعلاج، والبعض الآخر مات في المستشفيات الأهلية داخل البلاد”.
“بحكم متابعتنا الدقيقة لمجريات الأحداث، ومن خلال تواصلنا مع المسعفين وفرق الهلال الأحمر والمصادر الطبية فإنَّ عدد القتلى الموثق لدينا هو حوالي 400 قتيل، وهناك حالات فاتتنا بالتأكيد لأننا لم نستطع توثيقها، وفي الأيام المقبلة حتماً سيرتفع هذا العدد، أما إحصائيات مفوضية حقوق الإنسان وكذلك الأمم المتحدة فهي تعتمد على شهادات المراقبين والصحفيين المتابعين للتظاهرات”.
عزا أحمد الياسري صعوبة ضبط إحصائية الضحايا إلى تجاهل الحكومة للتوثيق والإعلان، وخاصة وزارة الصحة: “من المفترض أن وزارة الصحة وعبر مستشفياتها تُصدر بيانات تتحدث فيها عن أعداد القتلى، لكن هذا لم يحدث، والسبب هو أن القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي منع إصدار الإحصائيات إلّا من قبل الجهات الأمنية”.
من أجل معرفة العدد الفعلي لضحايا التظاهرات وكذلك عدد ضحايا قنابل الغاز المسيل للدموع، اتصل فريق التحقيق بالناطق الرسمي لوزارة الصحة والبيئة الدكتور سيف البدر ووجهنا له أسئلة عن عدد القتلى الكلي للتظاهرات منذ انطلاقها وكذلك عدد المصابين وكم هي نسبة أو عدد ضحايا قنابل الغاز من مجموع العدد الكلي للضحايا؛ لكنَّه اعتذر عن الإجابة على أسئلتنا معللاً ذلك بـ”أوامر عليا” تمتنع بموجبها وزارة الصحة والبيئة عن إعطاء أية حصيلة للضحايا، وأن المخوَّل الوحيد بإعلان الحصيلة هو اللواء عبد الكريم خلف الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي.
كما اتصل فريق التحقيق، باللواء عبد الكريم خلف ووجهنا له أسئلة محددة: هل هناك أوامر للأجهزة الأمنية بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع بطريقة أفقية ومباشرة نحو أجساد المتظاهرين؟ وفي حال لم تعط مثل تلك الأوامر فما هو تعليقكم على الاستهداف المباشر للمتظاهرين بتلك القنابل من قبل أجهزة الأمن في بغداد وبقية المدن التي تشهد احتجاجات؟ .. بعد الانتهاء من طرح الأسئلة صمت اللواء عبد الكريم خلف لبرهة من الزمن، وبعد التأكيد عليه مرةً أخرى، اعتذر عن الإجابة بحجة دخوله إلى “اجتماع أمني مهم” وتركنا دون نفي أو إثبات للأسئلة التي طرحناها عليه.
بعد يوم واحدٍ على الاتصال باللواء عبد الكريم خلف، خرج في مؤتمر صحفي للحديث عن التظاهرات وتطوراتها وإجابةً على أحد الأسئلة حول قنابل الغاز المسيل للدموع قال خلف: "إننا نستخدم غاز
SC وهو مستخدم في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا، وفي فرنسا، وفي روسيا، وفي كل دول العالم، وهو خليط من الغازات يحتوي على الفلفل الأسود ومادة أخرى كيمياوية، فقط تسيل الدموع، وكمية الغازات التي تخرج من القنبلة تلحق الأذى بالمتظاهر لفترة مؤقتة، وبمجرد إزاحة المتظاهر من المكان يعود إلى وضعه الطبيعي".
رواية اللواء خلف نسفها تصريح مثير لوزير الدفاع العراقي نجاح الشمري في 15 تشرين الثاني 2019، كشف فيه أنَّ قوات الأمن العراقية تستخدم أسلحة لإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع مداها من 75 إلى 100 متر، والعتاد الموجود فيها يستخدم في كافة دول العالم، لكنه استدرك بالقول أنَّ حوادث قتل حصلت لمتظاهرين يبعدون عن القوات الأمنية مسافةً تزيد عن 300 متر.
وقال الوزير: “بعد الذهاب إلى الطب العدلي وإخراج المقذوف من رؤوسهم وجدنا أنَّ هذا العتاد لم يُستورد من قبل أي جهة عراقية، وأنَّ أداة الإطلاق والبندقية والعتاد دخلت إلى العراق ليس عن طريق الحكومة العراقية، وكان استخدامه سيئاً، ووزن المقذوف ثلاثة أضعاف وزن المقذوف الذي كان يستخدم من قبل القوات الأمنية المختصة” وأكد الوزير على وجود طرف ثالث هو من يقوم بقتل المتظاهرين والقوات الأمنية على حدٍ سواء.
من أجل الحصول على توضيحات وتفاصيل عن هوية الطرف الثالث الذي يقتل المتظاهرين والقوات الأمنية، حاول فريق التحقيق، الاتصال بكل من: الناطق باسم وزارة الدفاع اللواء تحسين الخفاجي، والناطق باسم وزارة الداخلية العميد خالد المحنا، وكذلك الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء عبد الكريم خلف، كلٌّ على حدة، لكننا لم نحصل على ردٍّ من أيٍّ منهم.
غيث أحمد، أحد المتظاهرين الذين يقفون على ما يعرف بخط الصد الأول على جسر الجمهورية، وهو ساتر يفصل المتظاهرين عن القوات الأمنية، ينفي رواية اللواء عبد الكريم خلف الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، ويقول إنَّ “قنابل الغاز المسيل للدموع أكثر فتكاً وخطورة”، ويضيف “لقد عايشت التظاهرات منذ بدايتها، حيث قمعونا في الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول بالرصاص الحي والقناصة، لكننا عدنا مرةً أخرى في 25 تشرين الأول فكانت قنابل الغاز المسيل القاتلة تفتك بالمتظاهرين”.
ويصف غيث أحمد كيفية إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع من قبل قوات مكافحة الشغب: “كانوا يرمون الساحة في كل مرة بوابل من القنابل، تشعر أنه مطر من الغاز، وفي يومي 25 و26 من الشهر ذاته كانت القنابل التي تُطلق علينا في جسر الجمهورية وساحة التحرير منتهية الصلاحية، ويعود تاريخ انتهائها إلى عام 2014”.
“في الأيام اللاحقة صارت قوات مكافحة الشغب تُطلق علينا أنواعاً جديدة من القنابل لم نألفها، ولم تعد الإسعافات الأولية كمشروب البيبسي والخميرة تنفع لإزالة آثارها، لقد سقط عدد كبير من الشباب شهداء وجرحى على الخط الأول لجسر الجمهورية، بعضهم كانت إصابته في الرأس مباشرة، وبعضهم مات مختنقاً بالغاز”.
ويرى أحمد أنَّ خط الصدّ الأول على جسر الجمهورية، كان المكان الأخطر على المتظاهرين: “بتاريخ 1 تشرين الثاني سقط على خط الصد ثلاثة شهداء، وعندما جاءت إحدى الطبيبات لإسعاف الجرحى، أُصيبت هي الأخرى بقنبلة غاز مسيل للدموع في بطنها، ونقلوها بالتكتك”.
ويوضح أنَّ أكثر ما يجعل خط الصد الأول خطراً هي المسافة القريبة التي يطلق منها عناصر قوات مكافحة الشغب قنابل الغاز “إنَّهم يطلقونها بشكل مباشر باتجاهنا، وفي الأيام الأخيرة بدأوا يستخدمون أنواعاً مختلفة من القنابل بحيث يؤدي انفجارها إلى انتشار شظاياها في المكان المستهدف، وحدثت جراء ذلك حالات بتر في اليد والقدم، وإصابات في الرأس والجسم”.
منظمة هيومن رايتس ووتش أصدرت تقريراً اتهمت فيه قوات الأمن العراقية بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع مباشرة على المتظاهرين في بغداد، وبحسب المنظمة فإنَّ “قوات الأمن أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع مباشرة على المتظاهرين في بغداد، وفي عدة مناسبات منذ استئناف التظاهرات في 25 تشرين الأول 2019، ما أسفر عن مقتل 16 شخصاً على الأقل. عدد القتلى هذا هو الأعلى منذ بدء التظاهرات اليومية في بغداد ومدن أخرى جنوب العراق ضد الفساد ولتحسين الخدمات العامة ومطالب أخرى”.
هيومن رايتس ووتش حلّلت “فيديوهات صورتها وكالة رويترز يومي 27 و29 تشرين الأول، وتأكدت منها بمقابلات مع شهود. تُظهر المقاطع أن قوات الأمن على جسر الجمهورية أطلقت النار على الحشود عند نهاية الجسر المطلة على ساحة التحرير. يُظهر مقطع 27 تشرين الأول أحد العناصر على يمين الشاشة يطلق قنابل مسيلة للدموع إلى الأعلى بينما يطلق ضابط آخر على يساره القنابل بشكل مباشر ضد حشود المتظاهرين من مسافة تقل عن 100 متر”.
“منذ استئناف الاحتجاجات، منع كبار المسؤولين الحكوميين الطواقم الطبية من مشاركة المعلومات حول القتلى والجرحى مع أي مصادر خارج وزارة الصحة، ولم تصدر الوزارة سوى معلومات شحيحة وغير كاملة. توقفت المفوضية العليا عن تحديث أرقامها منذ 31 تشرين الأول”. وقالت هيومن رايتس ووتش في تقاريرها إن التباين في طريقة إطلاق قنابل الغاز يطرح سؤالاً عمَّا إذا كانت بعض القوات تعمل جنباً إلى جنب بموجب أوامر مختلفة، أو لديها أوامر بتفريق الحشود بأي طريقة تراها مناسبة، أو أن بعض القوات تتجاهل الأوامر الصادرة لها.
عن الاستخدام القانوني لقنابل الغاز المسيل للدموع في حالة التظاهرات العراقية، وكذلك عن مدى التزام قوات الأمن العراقية بقواعد الاشتباك العالمية، سألنا الخبير القانوني العراقي دلوفان برواري فقال: “إنَّ استخدام القنابل المسيلة للدموع كما هو معروف وفق المعايير الدولية يكون في حالات محددة عندما يكون هناك تجمعات بشرية تعمل على التخريب، وليس في حالات التظاهر السلمية، فالهدف منها هو تفريق التجمعات من خلال إزعاجهم بالدخان، وليس قتلهم بالتصويب المباشر على أجسادهم، بل على العكس يكون الإطلاق بزاوية 45 درجة لكي ترتفع القنبرة وتنزل بقوة أخف بمناطق الفراغات وليس بشكل أفقي”.
“هناك اختلاف كبير بين التظاهرات والاعتصامات، فقنابل الدخان تستخدم في التظاهرات التي تتحول إلى شغب، وليس في حالات الاعتصامات التي تستمر لفترات طويلة، ما يحدث في بغداد والمحافظات العراقية هو اعتصام، والذي يعني استمرار تواجد المواطنين في مكان التظاهر على مدار 24 ساعة، أي استقرارهم في منطقة التظاهر، أما التظاهرات فهي عندما يتظاهر المواطنون وفي نهاية اليوم يعودون إلى بيوتهم”.
برواري يرى أيضاً أنَّ القوة هي آخر وسيلة يمكن أن تلجأ إليها قوات مكافحة الشغب، “ويجب أن يكون الاستخدام بقدر الحاجة، وليس استخداماً مستمراً، لذلك نرى قوات مكافحة الشغب في الدول المحترمة مجهزة بدروع تحتمي بها وليس قنابل تقصف المتظاهرين بها”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن موقع "درج"
*انجز التحقيق بدعم من الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية "نيريج"
أعده الصحفي: ميزر كمال