(1)
تَرجلتْ من التكتك المركون تحت نصب الحرية..
زينتْ وجهها الملائكي بلمسة من مساحيق التجميل، أعادتْ رسم شفتيها الكرزيتين بأحمر الشفاه، وصبغتْ أظافرها وكأنها تستعد لحفلة عمرها..
هتفتْ باسم الحرية.. نادت بالديمقراطية.. بوصفها امرأة ثورية..
انتفض سائق التكتك واستعجل تغطيتها بعلم بلاده..
صمتتْ.. جفلتْ.. وعيناها تسأل..
بطل التكتك يتعرق غيرة ورجولة، ويصرخ غضباً :
نحن أمام عيون مسؤول شهواني.. يغتال الاول ويغتصب الثاني..
احترمتْ غيرته وابتسمتْ، وحولت العلم لحجاب...
(2)
بصوت كله حماس يصيح سائق التكتك بن الرابعة والعشرين عاماً:
(التوصيل مجاني للتحرير..)
تقترب منه معلمة اللغة العربية التي علمته طوال سنوات الدراسة الابتدائية..
ركبت وفي عينيها دموع وأسئلة عالقة في الشفاه..
يراوغ السائق السيارات على جانبي الطريق ويقود تكتكه بفرح غامر...
وفور توقفه في ساحة التحرير، تسأله المعلمة:
أنا أذكرك جيداً.. كنتَ واحداً من المتفوقين في درس اللغة العربية، محباً لكل تفاصيلها.. خسارتي ان تكون قد أهملتَ درسك وتركت التعليم..؟
تختفي الابتسامة عن وجه السائق، ويجيبها بصوت منكسر:
انهيت دراستي الجامعية وتخصصت في اللغة العربية وآدابها.. وبعد عناء وانتظار اقترضت مبلغاً مالياً لدفع القسط الاول لهذا التكتك..
(3)
كتب على التكتك الخاص به مطلبه واتجه الى ساحة التظاهر..
تنبه الجميع لعبارته (وظفوا ذوي الشهادات العليا)..
تجمهر الشباب حوله وكل منهم يتأمل لباسه المهترئ المتعرق ووجهه الشاحب..
تعاطف الناس حوله، وسأله أحدهم:
- هل انت من حملة الشهادات العليا؟
أجاب بعفوية: لا أبداً ولا ادعي ذلك ولم يسبق لي التفكير بتزوير شهادة.. لكن توظيف المتعلمين يعمل على صناعة وطن محترم..
(4)
أصحاب اللثام الاسود يغتالون الحياة ..
يحيلون السماء الى دخان، يستبدلون هواء الله بغازات خانقة..
يحاولون تفريق المتظاهرين.. وقتل من تيسر قتله..
الكل يريد الحياة.. ويهاب رهبة الموت والدخان واصوات القنابل..
الموت أصبح مرئياً.. والجثث تتساقط الواحدة تلو الاخرى..
لا مسعف ولا منقذ إلا ذلك السائق المغامر المقامر بحياته وهو يتقدم بتكتكه ويشتت الاهداف ويجلي الجرحى فرح غامر، يُتفه معاني الموت كلها..
(5)
أذابتْ الثورة الشعبية ذلك الجليد المتجمد في ادمغتنا.. وسرعان ما تغيرت الاشياء والمفاهيم كلها..
صار القاتل يخاف القتيل.. والمسؤول يرتعد من هتافات الغاضبين.. وركاب الامواج اعتزلوا لعبتهم لان الموج بات اعلى من قدراتهم واشد خطورة..
تغير كله شيء، بعد ان واجه التكتك كل الاسلحة القمعية والدبابات وشكل سلاح الدعم والاسناد للثوار والثورة..
(6)
تعاونتْ اسلحة السلطة كلها لقمع ذلك التكتك المتظاهر؛ الذي يصول ويجول على هواه في ساحة التحرير وعلى مشارف جسر الجمهورية المدجج بقوى الموت.. يجول غير آبه بكل التهديدات المميتة..
لم يتوقف او يتثاقل من خدمة التظاهرة، صار منقذاً ومسعفاً وناقلاً ومناوراً ومشاكساً وساخراً..
تآمرت عليه زمرة من القتلة، وعملت على نصب الكمائن.. وسرعان ما اضرمت النار فيه، وهو الامر الذي ارغم سائقه على التخلي عنه وقذف بنفسه بعيداً عن النيران التي تلوكه..
بقيت عيناه ترقب سحب الدخان تتصاعد من التكتك، حتى تقدمت إليه إحدى المتظاهرات... ارخت من رقبتها سلسلة ذهبية تتدلى منها قلادة على شكل خارطة العراق، ووهبتها اياه تعويضاً عن خسارته..
نفض حزنه وامسك يديها، وقبلها بمحبة وقال:
حزني ليس على التكتك كونه مصدر رزقي الوحيد، ولكني اشعر بخسارة مناضل كبير خدم الاحرار..
احتفظي بعراقك ولا تقدميه تعويضاً لأية خسارة ..

عرض مقالات: