قائمة الخسارات كبيرة هذا العام، 2019. في وقت متأخر من يوم الاربعاء 28/08/2019 حيث السكونُ الكاذب المشوبُ بالقلقِ يلفُ بلادنا رنَّ الهاتف، كان على الجهة الاخرى رفيق وصديقٌ مشتركٌ، يتحدث بصوتٍ مشوبٍ بالوحشةِ ومكتوي بالحزنِ العميق.. لم ألحق ان أسأله عن سبب حزنه حتى باغتني بخبر الفجيعة: اعزيك.. بنبأ الرحيل الابدي للشاعر ابراهيم الخياط (أبو حيدر) إثر حادث مروري على الطريق الرابط بين دهوك و أربيل!.. يا لهول المفاجأة والفاجعة في آن.

   في هذا اليوم الحزين طارت طيور النوارس تنقل رحيل ابراهيم لأحبته في طول الوطن وعرضه وفي المنافي، وفي هذا اليوم بالذات اصطف برتقال بعقوبة ونخيل البصرة، وبساتين الفرات، وانحنت جبال كردستان، تحيي جميعها موكب ابنها البار المسافر نحو الخلود.. الى عالم الشمس والحقيقة والدفء الأبدي.

    ابراهيم الخياط، وكما عرفته، هو من صنف آخر من البشر، وبرغم مرور سنوات عديدة على رفقتنا ما زلت أسير ذلك اللقاء الاول علما أننا لاحقا التقينا كثيرا وعملنا سوية كثيرا. لذا سأعفيه وأعفي نفسي من ذكر خصاله وما أكثرها. غير أنّني لا أجد مفرّا، رغم ذلك، من الإشارة إلى إحداها، ربما لأنها غدت تعدّ من الخصال النادرة في عصرنا، وأعني إقبالهُ القوي على الحياة: إقبالهُ على العمل، وعلى المعرفة وعلى حب الآخرين، ذلك الإقبال الذي يتجلّى في الابتسامة التي كانت لا تفارقه أينما حل وعبارته الاثيرة: "على راسي"، وفي شغفه الذي لا يكلّ بمتابعة ما استجد في مختلف المجالات، وفي قدرته الجبّارة على خدمة الآخرين والصبر على اذى البعض، وهم في هذا الزمن ليسوا قلة على أية حال.

    كان إبراهيم طاقة حيوية نادرة، الأمر الذي جعله دائما قريبا من كثيرين، ضاما إلى جنبه أصدقاء قد يتعذّر على آخرين التأليف بينهم. كل ذلك بعيدا عن تصيّد مصلحة أو استهداف أغراض.

    كما إننا في مجلة (الثقافة الجديدة) نتذكر على الدوام السنوات العديدة التي قضاها العزيز (ابو حيدر) في العمل ضمن قوامها وما بذله من جهود مثابرة لتطوير عملها والارتقاء به الى ذرى جديدة، كي تظلّ أمينة لشعارها المركزي العتيد: فكر علمي .... ثقافة تقدمية، وأن تكون في مقدمة المنابر التنويرية في المشهد الثقافي والإبداعي العراقي عموما، من خلال ما قدمه من أفكار واقتراحات لتطويرها ولتطوير باب أدب وفن الذي كان مسؤولا عنه ونقله الى ذرى جديدة.

    ها أنت يا (ابا حيدر) تركتنا وغادرت مبكرا بفعل عمل سائق أحمق، بعد ان توقف عن الخفقان قلبك المطرز بالمحبة الصادقة وأنت الذي كنت تحلمُ بوطنٍ حر تنام على ضفافه دون ان يطرق بابك زوار آخر الليل، وبشعب سعيد لا يطارد لقمة الخبز ولا يئن تحت سطوة العسف ولا يصافح الايدي الخشب.

    ولكن لا تحزن فغداً ينبت العشب والزهر فوق ضريحك، و في وعينا ووجداننا ينبت صوتك منتصراً لوطن بهي وجميل بلا محاصصات ولا طائفيين، مبشراً بأن ورد العراق، لا محال، سوف يكسر سيوف من يحاولون اخذ البلاد نحو الهاوية السحيقة.... ولكن هؤلاء لن يمروا ما دامت ثمة شبيبة بلغت سن النضج مبكرا... سلاحها صدور عارية تستقبل رصاصات القناصين ببسمة وتنتصر عليهم.

    ها انت ترحل وتترك فينا ذكرياتك وما اكثرها وما أجملها، تحمل سطوة محبتك التي تتوهج فينا مثل لؤلؤة نحرسها ونلملم حولها بقايا أرواحنا المسكونة دوما بمحبتك، وأنت تودعنا بهدوء في سفرتك الأبدية، كأن المكان الجميل هو القبرُ حيث لا متسعٌ للمخاوفِ، وحيث الترابُ كعهد الزهور به والفراشات، وحيث المودةُ صافية والهدوء عميق.

    أيها الكبير (ابا حيدر).... في مثل هذه اللحظات الصعبة ونحن نؤبنك في أربعينتك نشتاق الى فوانيسِ روحك المبتسمة دوما تضيء لنا أرواحنا الملتبسة بمحبتك وبمحبة العراق. ها أنت كعادتك تتسلل هذه المرة أيضا عبر الحشود وتغادرنا بهدوء، تودعنا كزهرة، ترحل في سفرك الأبدي وتأخذ معك عشقك للحمائم والبرتقال والنخيل والبردي وطيور الحباري و "جمهورية البرتقال". ومع ذلك يا ابراهيم: سنرتب القاعة وننتظر عودتك كي نشرب معا استكان شاي فبدونكَ لن يكتمل النصاب !.. آخ يا رفيقي كم هي الحياة جميلة... ولكن الموت يا صديقي " كالتاريخ... فصل مزيّف".

    وماذا عسانا ان نقول الآن بعد صدمة الرحيل سوى: أبا حيدر .. لقد خسرت مع الموت هذه المرة لعبة المفاجأة... ولكن مع ذلك باق أنت بين أجمل قامات وطننا الثقافية المسكون بـ "جنون" الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، وسيبقى منجزك النضالي والثقافي، على مختلف الصُعد، محفورا في الذاكرة الجمعية.

(ابا حيدر)، كم من الوقت سيمر لنعترف بهذا الغياب الأبدي، ونتجاوز ارتباك اللحظات التي يأتي فيها اسمك مقروناً بالرحيل. سنظل نتعلق بأهداب هذه الذكريات، والآن وبعد ان رحل جسدك، ستبقى روحك تمارس حياتها بنشاط: تقرأ، تستمع، تجادل، تكتب بصبر وأناة، وضحكتك الشفيفة لا تبارح أيامنا، فأنت المجبول من طيبة هذه الأرض الطيبة، أبن بعقوبة مدينة البرتقال.. ابن العراق..

    ختاما.. وداعاً ابراهيم.. وسلاما على نخيلِ العراق وشطيه والمنحنى، سلاما على الوطن الذي أنجبَك ولم يبارحك لحظة ! نم مغردا في مملكة الشعر... ستظل حاضرا على الدوام... فكرا وممارسة وسلوكا اخلاقيا ونضاليا رفيعا... وفوق ذلك كله مبدعا راقيا ظل وفيا لأفكاره ومُثله ولم ينحنِ ابدا امام العواصف وما اكثرها !))