بعد أفول نجم الدولة العثمانية ، واحتلال بريطانيا للعراق عام 1914 -1917 ، وبفعل انتشار أفكار المدرسة الماركسية في أوربا وتحول بعض النقابات العمالية إلى أحزاب عمالية يسارية متأثرة بالحركات الجارتية لعام 1848، وفي أثر الظلام الذي ولده الحكم العثماني للشعوب المحتلة ، ان لاقت الأفكار اليسارية الجديدة القبول لدى شعوب الشرق،  خاصة لدى الشباب ، رغم خشية رجال الدين من انتشار هذه الأفكار مطلع القرن العشرين وتبنيهم نهجا معاديا لها ، غير ان الظروف التي احاطت بتورة 30 حزيران 1920( ثورة العشرين ) وقيام بعض الحركات اليسارية بالاسهام فيها رغم قياداتها الدينية ، ان اتضح الفرز بين أهداف الثوار، فقد كان الإسلاميون يرون أن الاحتلال البريطاني هو عمل ضد دولة اسلامية، غزو صليبي، في حين رأى الشبان وخاصة ذوي الميول اليسارية على انه احتلال استعماري يهدف إلى سرقة واستنزاف دول المشرق ، وهكذا بدأ الخلاف يظهر بين اليسار الذي ابتعد عن الحكم الجديد الذي تزعمته جنرالات تدربت وتعلمت في اسطنبول ، وبين اليمين الذي التحق بادارة دولة الاحتلال وتعاون مع العسكر الحاكم ، ومن بين كل هذا الكم المتلاطم من التيارات ، وبفعل ظلم الاقطاع القديم الموروث عن الدولة العثمانية وكذلك الاقطاع الجديد المتحالف مع المحتل البريطاني الذي منحه امتيازات استغلال الاراضي الاميرية ، وظهور نواة الطبقة العاملة بعد استخراج النفط وقيام بعض المعامل والورش التي تقوم بتلبية احتياجات الجيش البريطاني ، ان بدأت ملامح التكوين الطبقي في العراق . وتبلورت الافكار الخام المناوئة للاستعمار لدى بعض الشباب لتلتقي بفعل عوامل كثيرة مشكلة هنا وهناك تنظيمات يسارية مناوئة للاقطاع ومناوئة للاحتلال ومبصرة بالمستقبل الجديد للعراق . وهذه التنظيمات ما لبثت ان اضحت مترابطة بفعل وحدة الفكر ووحدة الهدف ممهدة السبيل لقيام الحزب الشيوعي في العراق عام 1934 .

ان للأفكار الواقعية التي يحملها القادة الشيوعيون والاصطفاف الطبقي الذي بدأ يتشكل في اواسط الثلاثينات وقيام الرأسمالية بالتعاون مع الإنكليز ببناء المصانع وقيام المحتل بمساعدة الحكومات المتتابعة بإنشاء البريد وبناء السكك الحديدية والموانئ لتسهيل إمدادات الجيش البريطاني وتسهيل مراسلاته  ان تشكلت النقابات العمالية بفعل تنظيم واضح للحزب الشيوعي العراقي ،وامتدت جذور هذه النقابات إلى شركات النفط ، وبسبب ظروف العمل والعوائد الكبيرة التي تحصدها الشركات ان قامت الخلافات بين إدارات الشركات المستقلة وبين العمال ، مما دفعت بالحزب في الكثير من الأحيان للدفع بقيام الإضرابات والاعتصامات لغرض حصول العمال على حقوقهم ، وهكذا وبعد ان توسعت قواعد الحزب الشعبية لتمتد الى الطلبة بعد العمال والى الفلاحين بعد الطلبة .  وان الحزب في الاربعينات والخمسينات كان قد أغلق مناطق كبيرة لصالح تنظيماته وخاصة في الوسط والجنوب ، وبفعل الظروف الموضوعية انذاك فقد كان الحزب الشيوعي العراقي من بين كل الاحزاب العراقية هو الحزب الوحيد صاحب القواعد المريدة دون تنظيم ، بتعبير اخر كان الولاء له  تلقائيا وعفويا لأنه كان يمثل امال وتطلعات الكادحين .  ولقد كانت لتنظيماته العسكرية ادوارا كبيرة في التأثير الايجابي على الجيش وتحركاته .  ومن خلال عمره السياسي الطويل وبسبب خبرة قادته ان قاد الحزب المظاهرة تلو المظاهرة ضد هذه المعاهدة او تلك الاتفاقية ، او ذلك العدوان الثلاثي الاستعماري على مصر عام 1956 ، ولقد كان للمحتل واتباعه اليد الطولى في السيطرة على مقدرات الشعب مما كان يدفع بالحزب رغم عمله السري ان يطفو على السطح معارضا لهذا القانون او ذاك القرار ، وردا على ذلك  تقوم الحكومات  المتعاقبة بزج  قادته  في غياهب السجون ، او تعدم زعماءه . ولقد كان لكل ذلك العمل السري المنظم ان مهد السبيل لقيام جبهة الاتحاد الوطني قبل عام 1958، التي بدورها اضافة الى تحركات الضباط الاحرار ان مهد السبيل لقيام ثورة 14 تموز الخالدة .

ان المؤرخ المنصف لا يمكنه أن يفصل حركة 14 تموز عن  نضال الحزب الشيوعي العراقي قبل غيره من الاحزاب ، من دون نكران  دور التنظيمات الاخرى ، ولكن أفكار الحزب وأهدافه كانت منصبة على معاداة المحتل كونه مستغل لثروات الشعوب وكونه معاديا لحركات التحرر التي كانت تطالب  بحرية الشعوب واستقلال بلدانها. 

ان الباحث في الاحزاب السياسية، يجد نفسه مجبرا على الدخول في حركة هذا الحزب الدائبة رغم عمله السري او الضربات الموجعة التي تلقاها من جميع الحكومات والعهود ، لكنه كان ينهض بنشاط يثير استغراب المراقبين والذي كانت له بصماته  في تاريخ العراق الحديث ، وله اليوم رأي مسموع على مدى الساحة السياسية بسبب تراكم الخبرة لديه ولالتصاقهة بالناس، التي كانت ولا تزال تكن الاحترام لثورة تموز.