وأنا الاحظ كالآخرين التحول التدريجي لمنتسبي شرائح اجتماعية مختلفة نحو المشين والسيئ من الافعال، نحو القبول بما هو مخل بالقيم العامة، والاحظ والمس ذلك، عاد بي الزمن الى حقبة الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي، وعاد بي الفكر ليدفعني الى القول، ان ما كان عيبا اصبح مقبولا. نعم ما كان يطأطأ له الرأس من الأفعال خجلاً أصبح مألوفا وأصبح نقده خجولا، فلقد كانت الرشوة على سبيل المثال رغم افقها الضيق آنذاك، كانت تعد مثلبة اجتماعية يحتقر مرتكبوها، اليوم اصبح نقدها ذليلا، لان الكثرة تمارسها بالاتجاهين، الراشي والمرتشي، انها لم تكن من منظومة قيمنا، حالها حال سرقة المال العام التي كانت تعد من الجرائم المخلة بالشرف وكان مرتكبها (وهو من النوادر) يسير دون أن يرفع رأسه بين الناس، وكان لا يرتاد المقاهي، ولا يزوج من بنات المحلة، ولا يدعى الى وليمة، ولا يرد عليه سلام. واليوم يسير مختالا رافعا رأسه بعنفوان المنتصر يتحدى الجميع لانه بات سيد الجميع. لقد تغيرت المفردات لقبولنا ان نتحول بالجملة من رافضين للعيوب الى مسكوت عنها، ثم تحولنا تدريجيا تحت تأثير عامل الانخراط التتابعي من مجتمع يحتقر العيوب الي مجتمع يقبلها على انها مفردات بسيطة، حتى تحولت بمرور الزمن إلى عادات مقبولة ونقدها لم يعد جارحا كما كان بالامس.

لقد استقبلنا ظاهرة الاستحواذ على الارصفة لنجعل قسم منها مرائب للسيارات او جزء من حدائقنا المنزلية، او اقامة اقفاص الدجاج عليها متفاخرين بصياح الديكة مبعدين المارة الى بحور الشوارع ليتعرضوا للموت الرخيص، او تركناها مراتع لابدان السيارات ومكائنها المزيتة، او تركناها لبسطيات الشباب العاطل عن العمل المنتج، او حتى جعلناها مكبات للازبال. هذا قليل من كثير، ونود ان نذكر ان الريف بات يزحف الى المدن فرائحة الحيوانات تشم من بعيد وهي ترتع وتلعب بين ثنايا المحلات السكنية او البيوت. وقد تجد من يرعى ماشيته على الارصفة الوسطية لتأكل حدائق الزينة، او ذاك الذي يذبح ويسلخ الخراف على الارصفة أمام المارة والاطفال، او ذاك الذي ينصب خيمة عزاء او سرادق احتفال وسط شارع عام ليقطع السير والمرور، واحدهم نصب في عرض شارع كلية الإدارة والاقتصاد شرق القناة خيمة لمحفله الانتخابي.
وزحفت ايضا تقاليد العشيرة التي كانت محرمة لتأخذ دورها في تخريب منظومة القيم تحت شعار انصر أخاك ظالما او مظلوما، او ان تأخذ العشيرة والافخاذ بالدفاع عن ابنائها العابثين بالمجتمع وامنه او المخالفين للقانون، وسرنا بتطرف نحو الفصول وابعدنا القوانين والأصول، لقد قمنا بالدكة العشائرية لنملأ الأجواء بالرعب والرصاص، وتركنا عدل شيخ كان يملأ المكان هيبة واتزاناً. واليوم سرنا عكس الاتجاه بسياراتنا الفارهة ونحن نفخر باستيرادها لا انتاجها، سرنا بها متحدين كل عرف وضحكنا على القانون. لقد قضينا بالباطل لصالح المتهم مقابل مال زائل، وقبل القضاء بسلطة السياسي الفاشل مقابل منصب فاعل. لقد قبلنا بالمحتل يغزو بغداد تدريجيا وتوجهنا صوب مؤسسات دولتنا نسرق منها كل شيء وتركنا وثائقنا العزيزة تحت السنة النيران، او قمنا راكضين لندك اعرق دار للطباعة في الباب المعظم لنسرق منها كل شيء حتى الشبابيك والطابوق. ولم يوقفنا صراخ طفل ونحن نسرق حاضنته فرحين، ومنا من سرق الحاسوب من الجامعة المستنصرية على انه جهاز تلفاز، وكثير شارك في نهب مخازن وزارة التجارة والصناعة والتربية وغيرها من موجودات وزارات الدولة، ومنهم من استقر خلف منضدة وزير او مدير عام ولم يكن يمتلك أبجديات الإدارة العامة، او منهم من قاد فرقة عسكرية وهو خريج شوارع دول المنفى، او منهم من أخذ مركزا جامعيا وهو قد حمل معه شهادة عليا مزورة، او منهم من تحدث بالقيم والمبادئ وهو يرمي بأعقاب سكائره من شباك سيارته المستوردة، او منهم من خاض الانتخاب بلا برنامج ولا يعرف كم هي مساحة العراق قبل أن يحكمه صدام وماهي مساحته بعد زوال ذلك النظام، او هناك من تصدى للاستثمار وهو جاهل بأصوله، يبتدع كل وسيلة طاردة ليبز المستثمر وليدفع به خارج الوطن. نحن من قبل لنفسه المكوث في الدار مقابل راتب مجز من الدولة، او منا من قبل تعطيل القطاع العام لان امريكا لا تقبل الا بسياسة السوق ذلكم السوق الذي انفتح على مصاريعه للمستورد الجيد والردئ بل وحتى المؤذي بالصحة العامة. وبعضهم تاجر بكل شيء ومن المعيب ان نذكر بعض هذا الشيء حتى اوصلونا الى المتاجرة بالمخدرات، والكل لا يدري انه جزء منفذ بذلة -لا نقول مخططات الغير بل نقول على الاقل مآرب الغير- هذا الغير المستفيد او الحاقد ولا نرغب بتقديم المزيد فكل منا قام بدوره مدركا او غافلا في ضرب نفسه في الصميم وبعملية نرجسية فاقت المألوف، وان الهيئة الاجتماعية على الاقل منذ السقوط كانت متساهلة مع الجديد من الممارسات، او ان الكثير من شرائح هذه الهيئة لم تكبح الأبناء المنحرفين او ان القسم الآخر رحب خجلا بتلك الافعال، كما ان النقد الخجول لم يكن بمستوى خطورة المرتكب من تلك الافعال، فالكثير بالتدريج قبل بسرقة المال العام، او تغاضى عن التجاوز على العلم والتعدي على درجاته ومحرماته، فالكل المعلم والتلميذ تبادل كل منهما جريمة خيانة اصول الامتحان بكارت موبايل او حفنة دنانير، او اخذ البعض يضرب المعلم او يتعدى على مديرة المدرسة والحكم للعشيرة لا القانون، وقد قبل الطبيب على نفسه بعد يمينه ان يتواطأ مع الصيدلي لصرف الأدوية مقابل أسعار ظالمة، او تستورد مؤسسة حكومية أدوية فاشلة او خيوط جراحة منتهية المفعول، وكل ذلك السكوت كان وراءه ما هو اعظم.
ان الكثير لم يكن ليذكر بل أكتفينا بالعناوين، لم نجد ابدا شعبا لا يحب حكوماته مثل شعبنا وربما عذره يسبق النتيجة لان حكوماته لم تك تحبه على الدوام، والعذر كل العذر لهذا الشعب ولكن لا عذر له على الاطلاق ان لا يحب دولته (وطنه) لقد اختلط عليه الامر ولم يعد يميز بين الدولة والسلطة (الحكام) الدولة يا ناس هي الدستور والقوانين والابنية والممتلكات والعجلات والملفات، وهي باختصار الملك العام، اما السلطة فهم خدام الدولة وهم اشخاص يمارسون وظائف تحددها قوانين الدولة، فهم اشخاص سياسيون والدولة كيان قانوني، الدولة هي الاصل والسلطة هي الفرع، الدولة دائمة والسلطة متغيرة، أحبوا دولكهم ولا تعادوها، هي ملككم المشترك، اما السلطة في العراق فهي من يعتدي على الناس، والدولة تريد بقوانينها تحقيق آمال الناس، وتريد ان تكبح جماح السلطة.
ان الاختلال واسع الانتشار لمنظومة هذه القيم بعد كل ما تقدم يقف وراءها مجتمع عانى الكثير من الظلم، كما يقول الكثير من المفكرين، ونحن نسلم بذلك، ولكن نتساءل أمام الجميع، ألم تكن لتقاليدنا وعاداتنا، ومن قبلها مبادئ ديننا الحنيف تأثير علينا؟ ألم تكن لنا جميعا كوابح ذاتية تمنعنا من ارتكاب الأخطاء؟ ألم تبق لدينا رواسب من أرثنا الغزير، لنقف بها بوجه المسيء؟ لقد كان بامكان المعلم، وهو المربي ان يصمد بوجه الجيل الذي أخذ يميل تدريجيا للانحراف، وقد كان بإمكان المدير العام ان لا يكون مثلا سيئا يسبق الموظف التابع له بالسرقة، ويفتح له الباب على مصراعيه ليسرق هو من بعده او ليرتشي، وكذا الوكيل او الوزير، وقد كان على الام ان لا تقبل على ولدها وهو يدخل عليها بما كان قد سرقه من معرض بغداد الدولي أابان الاحتلال، ولقد كان حري بالأب ان يكون مثلا لابنه مستنكرا حرق الدوائر والعبث بموجوداتها، او كان الأجدر بشيخ العشيرة ان لا يقبل بسرقة معسكرات الجيش ليحول ديوانه إلى معسكر للعشيرة يقاتل من خلاله إخوته في العشيرة الاخرى وعلى أتفه الأسباب، وقد كان حري بالكورد ان لايشتروا الاسلحة الثقيلة العائدة للجيش لانها ممتلكات بلدهم لا ممتلكات صدام، لقد ذهب صدام وظلت الدولة ، إذن لم يكن هو الدولة.
سيدي القارئ الكريم، ما زال الأمر قيد السيطرة لأننا ما زلنا على وطنيتنا وما زال شعبنا فيه الأغلبية من الخيرين والمطلوب هو ان يجنح اي منا ولو للحظة إلى ما كانت عليه تقاليدنا قبل ثلاثين عاما، ان لا نطالب بالكثير ولسنا طماعين، وأن يأخذ كل منا موقفا ناطقا شجاعاً تجاه كل إساءة او تعد على المال العام، او الرصيف العام، او الرأي العام، او القانون العام، او الطريق العام، او الخلق العام، ولا نسفه الصحيح من التوجهات والكلام، واخيرا نتوجه إلى رجال الصحافة والاعلام ورجال الدين والاعلام والمثقفين الكرام ان ارفعوا صوتكم عاليا، لا لا لا للفاسدين، لا للقبول بما هو عيب على انه مفردة صغيرة، فما هو عيب لا يمكن ان يكون مقبولا.