منذ الصغر كان يطل علينا دون ان نراه، هذا الذي ينتخي به والدي ( انا اخو عبد)، حين تجرحه الليالي ، او ينهمر عليه الحزن،أو يقاوم فقدان شقيقه الوحيد (حنون) الذي مات شابا، بسبب مرض السرطان ، ولم يحضر مجلس عزائه، لانه مثقل بحكم غيابي لعشرات السنين بعد انقلاب شباط ٦٣ وهروبه من سجن الكوت .

 اتذكرك ياعمي الشطري ، في كل آذار، وفي كل مساء جريح، لانك كنت تختصر لنا الدروب، وتطرزها بالامل، اتذكر وجهك كالقمر يبزغ في الظلام، لا انسى حكاياتك ، حينما كنت تقتسم مع صنو روحك (حسن) خبز الحياة،كنتما شريكين في الامنيات ،منذ الصبا، أي نموذج للرفقة و(الخوة) الصادقة الصافية قدمتما لأبنائكم ، ولتلامذتكم؟؟        ما سر ذلك الفرح الذي غمر معلمي الدواية؟ غير ايمان بعدالة قضية، ونظام اعتقدوا انه اسلوب الحياة الوحيد، ويقين صادق وعميق بالافكار،. المعلمون القادمون من الشطرة ( عبد چياد، حسن العتابي، جواد كاظم الجويد، عبد الحسن عيسى)وجدوا في الدواية منذ منتصف اربعينيات القرن المنصرم عالما يتسع لأحلامهم ، والدواية، كل ما يحيط بها يوحي بالأنين والاسى، اعواد من القصب والبردي المتيبس،مسكونة بالطيور والاسماك، بيوتها من طين، حين ينزل عليها المساء ، تغط بالظلام والنوم،وابخرة الدخان الراكد يلف اجمات التبن ليحيل الجدران الى سخام اسود

العالم يعيش عصر تحولات كبيرة، اندحار الفاشية وهزيمة النازية ، وكان معلمو الدواية مأخوذين ببهجة هلامية ، ومنحازين بالطبع لتلك التحولات ، يخاطبني عبد كما روى بعد سنين: هنيئا لك جمال ، ستعيش في عصر الاشتراكية! بعد عقدين من الزمن يزورني الوالد ورفيق دربه ابو ليلى ، في معتقل شرطة الكاظمية، وانا مازلت طالبا في الاعدادية، وقد علت وجهه ابتسامة خفيفة،ومن خلف القضبان، يخاطبني (عمي) بأسى : هنيئا لك ولدي ، انك الآن في عصر الإشتراكية!

يبدو عبد چياد الأكثر مرحا وسخرية من الواقع ، واكثر تدفقا من بين رفاقه، وفي سنوات لاحقة، كانت تسعفه هذه الروح من الإفلات من سطوة الإستبداد والأحكام الجائرة في المجالس العرفية، كان ساخرا، يمتاز برهافة الاحساس والاكتفاء بالقليل من متاع الدنيا، كلماته تنساب بلا ضجيج،واراؤه رصينة ، وهي سمات المناضل الحقيقي الناكر لذاته والمضحي المخلص،

كنت تسخر من جلاديك ياعم، لا انسى أبداوقفتك الشامخة في قفص الاتهام في المجلس العرفي الثاني وانت تضحك من رئيسه العقيد شاكر مدحت السعود ، حين اتهمك انك كسبت شقيقك الاصغر هادي الى الحزب الشيوعي ، يومها كان هادي الضابط المتخرج توا من الكلية العسكرية قدنجا من قطار الموت وزج به في سجن نقرة السلمان، لم يجد عناء في الرد، ولا وقتا يسعفه ، سىوى ضحكة دوت وسط القاعة، اطلقها بوجه السعود، واجابة إستفاق بعدها (الحاكم) ليعيد ترتيب أسئلته من جديد، قال : صحيح انا كسبت هادي شيوعيا! لكن شقيقي الآخر سمير يعاني من مرض مزمن، هل انا كذلك ( كسبته) للمرض؟؟

وعاد السعود، وهو الغارق حد أذنيه في وهم العجرفة والصلف ليسأل (ابو ليلى):انت ياعبد كنت تجبر الفلاحين بتقديم (الطليان) لك كهدايا!!

كيف تصدق هذه الرواية يا حضرة(الحاكم)؟ وانت (الفاهم)!اجاب عبد بكل برود وهدوء، هل يصح لي وانا بهذا الطول والعرض ان اقبل هدايا صغيرة ك(الطليان)،؟ هذه تهمة باطلة ، والشهود زوروا الحقيقة ، انا يا رئيس المجلس لا أقبل بغير (البعران).  ها نحن يا عم نقتفي أثرك اسمح لنا ان نضع وردة حمراء فوق صورتك التي ماتزال معلقة في قلوبنا في ذكرى ميلاد حزبك،ها اني اراك في عيون الفراشات  ، تمنح تلامذتك في الدواية حبات التمر لانهم يتضورن جوعا في الدرس،وفي كل عيد تكسو اجسادهم النحيلة بدشاديش جديدة، ها انا اكتب اليك وفاء ياعم .

عرض مقالات: