يوسف زومايا( 1950-2000 ) اخي الكبير الطيب الذكر أصبح معيلا لعائلته وهو ابن الثامنة عشر بعد وفاة والدي  زومايا طوانة زوزو (1914-1968) ، الذي لا تتعدى ذكرياتي معه سوى رؤيتي له وهو ملازما فراشه بسبب مرضه المزمن  ( قرحة الاثنى عشر) وجرحه الذي ظل ينزف حتى مماته بسبب جرحين اصيب بهم الاول كان في حركات رشيد عالي الكيلاني مايس/1941 والثاني بسبب مشاركته في الدفاع عن ثورة 14 تموز ابان المقاومة الشعبية  في الموصل 1959 ، وفي تلك الاحداث الدامية فقدنا اخي اسماعيل ابن الثامنة (1951-1959) بعد اغتياله من طيور الظلام والفاشست الجديد القديم انتقاما من مواقف ابي وبسبب تلك الاوضاع هجرنا الى بغداد لنسكن قرب جامع الخلاني  ، وكل ما أتذكره ايضا  عن أبي ( ابو يوسف) كانت الطيبة الذكر أمي رفيقة دربه تريزة موشي هرمز( 1932-2014)  تصطحبني معها وانا ابن الخامسة في البحث عن والدي في الدوائر الامنية والسجن السياسي او مركز الاعتقال في منطقة الشماعية اطراف بغداد في ستينيات القرن الماضي وكان يرافق أمي دوما العم يونان  الانسان الطيب تمنياتنا له بالصحة والعمر المديد ...

توفي أبي في 1968 بعد ان انهكه التهجير والمطاردة الامنية الى جانب الفقر والعوز الذي ألم بنا وخصوصا بأبناء شعبنا الكلداني السرياني الآشوري بسبب مسيرة الموت التي كتبت عليه ، وأن يتجرع مرارة مواقف قيادته الدينية والدنيوية غير المدروسة أو ما رسم له من اللاعبين الكبار لنكون مجرد اداة لاجندتهم وان يدفع شعبنا الاعزل ثمنا باهضا لتلك المخططات والذي بسببها أجبر شعبنا أن يقطع الالاف الكيلومترات من هكاري الى سلامس وارومية ومن بعدها الى بعقوبة ومن ثم الى مندان بين الموصل واربيل ليبحث عن طوق نجاة وهو في طريقه الى الجلجلة ، هذه الرحلة افقدتنا اهلنا واقاربنا وهم في مسيرة الالف ميل بلا هدف سوى النجاة من الموت والقتل والابادة الجماعية التي طالتهم ،  فمنهم ماتوا على قارعة الطريق بين الوديان والجبال ومنهم لقى حتفه على يد العصابات التي كانت تعتقد انها ستبني دولتها بعد امتصاص الدماء البريئة ....

من تبقى من عائلتي سكنت في بيبادة/ عمادية  وبدلية وأستقر بعض افرادها منهم جدي طوانه وعمي زوزو الاخ الاكبر لأبي زومايا في قرية تللسقف مع زوجة ابيهم (شوشن) ولكن لم يكن ذلك الاستقرار ان يدوم بعد الجريمة النكراء التي اقترفها الجيش العراقي ابان الحكم الملكي في مذبحة سيمل 1932 ابشع جريمة بعد استقلال العراق في 1931 الذي تعهد حينها العراق بحماية الاقليات ومنها شعبنا الكلداني السرياني الآشوري ، وعلى خلفية المذبحة الدامية في سميل تم تهجير وهرب أكثر من 63 قرية لتستقر على ضفاف الخابور في سوريا اليوم ، الا ان أبي لم يتمكن العيش بعيدا عن وطنه الاصلي ليعود الى العراق تقريبا سنة 1934  .

بعد وفاة ابي كان لزاما على أخي يوسف ابن الثامنة عشر ان يبحث عن عمل ليعيل عائلة من ستة افراد ، وأجبر ان يمتهن التصوير ، هوايته التي احبها منذ صغره ، في شارع السعدون اخذت خطاه الى شارع جوار سينما السندباد كان يسمى شارع (الفورتات) شارع خط كرادة / السعدون للباصات الصغيرة ( فورت) التي تنقل الركاب الى منطقة الكرادة داخل /خارج  وقبل نهاية الشارع بأتجاه شارع ابي نؤاس وجد ضالته اخي يوسف في ستوديو الأمل الجديد الذي يقابله من الجهة الثانية محلات الصباغ للمزاد العلني .

بعد تردد وهو متسمر امام الكاميرات المعروضة في يمين الاستوديو ، واذا بصوت جهوري ينادي عليه ليقول له تفضل ابني شتريد ..؟ اجابه يوسف عمو اريد اشتغل مصور،  سأله صاحب المحل وهل تعرف (طك) تاخذ صور....؟  أجابه أخي .. نعم عمو أعرف ، وعلى الفور قال له اذن اخذ الكامرة مع الفلاش من الرف الخشبي (الجامخانة)  وروح اشتغل ، لم يصدق نفسه يوسف وعلى الفور فتح الجامخانة واخذ الكامرة مع الفلاش ودفتر ايصال الصور وانطلق مسرعا ليصل بعد دقائق معدودة الى ساحة  السعدون المناطق المزدحمة في ذلك الوقت بين المحلات والمقاهي و دور السينما النجوم واطلس ... تذكر اخي يوسف بأن صاحب محل الاستوديو لم يسأله عن اسمه او عنوانه ولم يأخذ منه اي ضمان .......!!

رجع أخي يوسف مسرعا لصاحب المحل ليعتذر منه ، فأجابه صاحب المحل ماذا بك ابني ليش رجعت ؟

يوسف : عمو انت لم تسألني عن اسمي وعنواني

صاحب الاستوديو : نعم عمو شنو اسمك ( ماهو اسمك ؟)

اسمي يوسف

صاحب الاستوديو : عاشت الاسامي يوسف ...قالها صاحب الاستوديو واخذ يقهقه مع اصدقائه ويبدو ان اصدقائه كانوا مندهشين من فعل صديقهم الذي لم يسأل الشاب الذي استولى على الكامرة على عجل دون اي ضمان ... رجع صاحب الاستوديو يتحدث مع اخي يوسف .. روح عمو يوسف اشتغل .... غادر اخي المكان يبحث عن رزقه وهو منبهر بتلك الشخصية التي برغم الحزن الكبير التي تظهر على محياه ولكن ابتسامته وكرشه الكبير وسيكارته التي لا تفارقه كانت سمة لذلك الرجل الطيب الذكر ابو خليل ...

بعد ان توثقت العلاقة بين صاحب المحل ابو خليل وأخي ، سأله ذات مرة أخي كيف اعطيتني الكامرة دون ضمان او معرفة محل سكني ... اجابه ذلك الانسان الطيب بخلقه قائلا له :  عمو يوسف... الانسان يبين من مظهره الي يريد  يشتغل لو جاي يبوك ( يسرق) وأنت ميبين عليك حرامي،  وثم اسمك يوسف شلون يوسف يسرق .... أخذ اخي يفكر بما قاله ابو خليل وما هي العلاقة من يكون أسمه يوسف لا يسرق..!  هل هو يقصد النبي يوسف ..؟ أم يوسف سلمان يوسف مؤسس الحزب الشيوعي العراقي المتداول أسمه دوما في بيت زومايا  ابو يوسف...  

بداية السبعينيات طلب اخي يوسف مني وانا ابن العاشرة من عمري أن اترك صباغة الأحذية التي كنت اشتغلها بعد عودتي من المدرسة ، لكي أعمل صانع عند الخياط السوري ابو صبيح الذي اصطحبه الطيب الذكر ابو خليل الى محله ليعطيه قسما من الاستوديو ليصبح محلا للخياطة بأدارة ابو صبيح ويبدو كان ابو صبيح الذي اجهل اسمه كان معارضا للنظام السوري آنذاك ..

اللقاء الاول مع معلمي الأول ابراهيم خليل الخطيب العاني أبو خليل الطيب الذكر ..   

كان ابو صبيح شخصية لطيفة جدا واخلاقه عالية بالرغم اني لم اتلمس منه ، بأنه كان يرتاح للشيوعيين بالرغم انه كان يحترمهم ويحترم صاحبه ابو خليل بشكل كبير،  كان ابو صبيح وحسب ما سمعت بانه اسدى لأبي خليل معروفا عندما كان ابو خليل هاربا من العراق ومحكوما عليه غيابيا كونه احد قادة انتفاضة 1952 وهو مازال طالبا في كلية الآداب أو الحقوق ، وأراد ابو خليل ان يقدم معروفا لابي صبيح في ايجاد له عمل فقسم المحل الى نصفين .....

اشتغلت صانع خياطة عند ابي صبيح كما يقولون بالأسم فقط ، لأن كل وقتي كنت اقضيه في الاستماع لحديث الطيب الذكر ابو خليل مع ضيوفه ، كان موسوعة في الأدب والثقافة والسياسة ، وحقيقة لم أكن مهتما كثيرا بالعمل الذي كنت انجزه على عجل قبل مجيء ابو خليل من عمله حيث كان موظفا / رئيس الملاحظين في البنك المركزي العراقي ، تعرفت على نزار قباني ودواوينه وانا ابن الثانية عشر وتعرفت منه على تروتسكي واحببته وانا لا أعرف عنه شيئا غير ان ابو خليل كان يحبه ومتأثرا به وكما كان يقول عنه الطيب الذكر دوما ابو خليل ... ان تروتسكي كان ينفع بهاي الايام ( ايام الموافقة على التحالف مع البعث في الجبهة الوطنية ) واقتنعت وانا ابن الثانية عشر بأن حل مشكلة العراق بوجود شخصيات مثل تروتسكي ... وأحببت لينين جدا وكنت صديقا ملاصقا ليوسف سلمان يوسف من خلال احاديث ابوخليل عنه ، ولم تعجبني الجبهة الوطنية بين البعث والشيوعيين حينها لموقف ابو خليل منها بالرغم انه لم يكن سلبيا ، كما كانت أمي البسيطة  هي الاخرى كان لها موقفا سلبيا من التحالف مع البعثيين ومن الجبهة الوطنية 1973 وكانت تمقتهم وتتذكر بحزن شديد  اعمالهم الوحشية في الانقلاب الفاشي  في شباط 1963 ..

كان ابي صبيح ينزعج بين الحين والآخر من تطفلي لأستماع الكبار  وتركي للعمل وخاصة كنت بعض الاحيان بل اغلب الاحيان كنت اسأل واناقش الكبار الذي اتأسف عدم معرفتي بأسمائهم،  بالرغم كانوا كما يقول المثل لملوم من جميع  القوميات والطوائف في مجالس ابو خليل الطيب الذكر.

كان ابو خليل يبتسم ويقول لي خلص شغلك وتعال اكعد ويانا وكان يتحدث مع ابي صبيح ليدعني ويتركني معهم اذا لم يكن له شغل انجزه له ، كان يبتسم ابو صبيح ويقول له ابو خليل راح اطلع عينه هههه ، جاي يشتغل كامل لو جاي يصير شيوعي ههههه كان يضحك ابو صبيح والجميع يضحكون

كنت أجلس مع جماعة ابو خليل الطيب الذكر كنت استحق شرب الشاي معهم ولحم عجين معتبر مع فلفل اخضر ... وكان ابو صبيح  يعمل كل شيء وحتى عندما كان يناديني ، اقول له...  بعدين ابو صبيح خلي تنتهي الجلسة انتظرني ... الكل يضحك ويستمر الحديث والنقاش مع ابو خليل الطيب الذكر..

كنت سعيدا جدا في العمل لوجود ابو خليل وكنت اشعر بانه ابي الذي وجدته وانا قد كبرت واصبحت ابحث عن اسباب الفقر والتخلف في العراق ، كان ابو خليل  ابا بمعنى الكلمة كان مرجعا لي في مراجعة دروسي ومشاكلي مع استاذي ابو صبيح ومع اي مشكلة تصادفني حتى عندما كبرت ...

لأول مرة مع طريق الشعب

في أحد الايام طلب مني ابو خليل ان اذهب لصاحب الكشك في رأس الشارع مقابل معرض الدرة واشتري منه جريدة طريق الشعب ، اشتريتها من صاحب الكشك ، اندهشت من الجريدة التي تحوي رقم العدد صفر ، منذ ذلك اليوم اصبحت علاقتي وطيدة مع صاحب الكشك ابن الثورة المناضلة،  كان يضع على رأسه عقال عربي ،  عندما بدأ القمع على الحزب الشيوعي العراقي في 1977 كان يخبئ نسختي جانبا وعندما كنت اتاخر عنه لايام ، كان يفتقدني وكان يسأل عن الحزب وماذا ستفعلون بالايام القادمة ...هؤلاء كانوا أهلنا وناسنا الطيبين ....

كان ستوديو الامل الجديد مراقبا من قبل الاجهزة الأمنية قبل وبعد 1973  وخاصة المحل كان يعج بالكثير من اصدقاء ابو خليل ، والغريب كان المحل ايضا ملجئ او مكان للقاء لبعض القيادات الفلسطينية /  الجبهة الشعبية والديمقراطية والتحرير / ومن ضمن رواد المحل صديق ابو صبيح زهير الفلسطيني الذي لم يكن على وفاق مع ابو خليل في القضية الفلسطينية ، كان ابو خليل يحترمه كثيرا بالرغم على خلافه الدائم معه وكونه صديق لأبي صبيح ، وكان زهير الفلسطيني كما تبين لاحقا بانه  صديقا شخصيا  لصدام حسين ومعجبا به كثيرا ، النقاشات كانت حادة بينهما وكان زهير الفلسطيني الذي اجهل اسمه يحمل احتراما كبيرا لابي خليل ، ومن طرائف زهير الفلسطيني مع الامن العراقي ، كان يرتاد زهير ملهى الاوبرج الكائنة مقابل فندق بغداد انذاك بالقرب من حلويات الصباغ والخطوط الجوية الايرانية بالقرب من سينما النصر ،  وكان بجوار الملهى محل خياطة معروف اسمه (خياطة احمد حسن)   وكانوا زبائن الخياط  كما يقولون اكثريتهم من القصر وكبار ضباط الامن ، في احدى الليالي وبعد مغادرة  زهير الملهى وهو سكران طينة ، دخل على صاحب الخياطة الذي كان يتأخر بالعمل ليلا وطلب منه (بكرة خيوط) استغرب الخياط احمد حسن من الطلب.... بكرة خياطة في ساعات متأخرة من الليل...!!  ولكن مع هذا اذعن لطلب السكير ولكن زهير رفض ان يأخذها ولكنه اصطحب الخياط احمد حسن الى خارج المحل وقال له عليك ان تضع هذه البكرة هنا عند اسمه ،  ليصبح أسمه احمد حسن بكرة ( أي أحمد حسن البكر الرئيس العراقي ) وأخذ زهير يضحك مستهزئا من الرئيس البكر مع عفاط ولكن ما هي الا دقائق حضرت الى المكان احدى دوريات شرطة النجدة لتعتقله بعد اشتباك وعراك مع شرطة النجدة وايداعه بالسجن ، في اليوم الثاني صباحا تم معاقبة شرطة النجدة والضابط معهم بسبب اعتقالهم للسيد زهير الذي اتصل من مركز الشرطة بصدام حسين السيد النائب ...

عند المساء كان زهير عندنا في المحل وهو مشوه الوجه بسبب الضرب المبرح الذي تلقاه من شرطة النجدة في تلك الليلة وفي ذلك اليوم عرفت سطوة صدام حسين كم كانت قوية في العراق ..

أصبح محل ابو صبيح أو محل ابو خليل يعج بالكثير من الشخصيات الفلسطينية المحسوبة منها على النظام العراقي ومنها على اليسار الفلسطيني اضافة الى الشخصيات الوطنية العراقية ، ابدى ابو خليل عدم ارتياحه لشلة زهير الفلسطيني وطلب صراحة من ابو صبيح بأن لا يراهم بعد اليوم في محله ..

على خطى معلمي الاول عرفت طريق الحزب الشيوعي العراقي وانا طالب في متوسطة الرصافة للبنين في السنك تحت مظلة الاتحاد العام لطلبة العراق ، وبالرغم كان ابي شيوعيا ومناضلا كبيرا لم أتأثر به بقدر تأثري بشخصية ابو خليل الشخصية التي كان لها الأثر الكبير في حياتي

تحية اجلال واكبار لمعلمي الاول ابو خليل /  ابراهيم خليل الخطيب العاني الطيب الذكر في يوم تأسيس حزبه الشيوعي العراقي بميلاده الخامس والثمانين

تحية اجلال واكبار للذين قدموا زهرة شبابهم وعوائلهم من اجل بناء وطن وحر وشعب سعيد

وكل عام وشعبنا العراقي وحزبنا الشيوعي العراقي بألف خير ومحبة

 

والى اللقاء مع الجزء الثاني يتبع

عرض مقالات: