الى الخال "أبو حسام" في أربعينيته
لم أجد في أربعينيتك مرثية مغايرة عن تلك التي كتبتها، ناعياً رفاقا رحلوا وتركوني وحدي مثقلاً بدموع أتخمت العروق.. قلت لنفسي لأستنجد به كما كنت أفعل في كل لقاءتنا، وأن أساله يا خال:
كيف إستطعت أن تحفر إسمك على شغاف الوطن، وأن تثب دوما بصراخ طليق لتمسح ركام الخيبة عن العيون المتعبة. كيف كنت توقد شموع الفرح وتتركها متلالأة في صواني الروح، فيما كان الأخرون يلملمون أوراق حزننا الذابلة. كيف كنت تمزق الحجب عن الرؤيا بحكايات جميلة تعيد لأنفسنا التوازن الذي نفتقد، حين كنا نرى كل الرياح غير ملائمة للإقلاع.
أردت أسألك من أين أتيت بكل هذا الكبرياء المفعم بالتواضع، حداً جمع بين هامتك والمجد. كيف هممت نحو براعم الياسمين، حين هّم القطيع للكلأ، حنوت عليها حتى تفتحت زهراً وعطراً، تفاؤلاً وعنادا. كيف قاوم جسدك النحيل سبخ الظلم وأنتصرت بيديك العاريتين على جور الطغاة، فضّمدت بقطع من روحك جراح الفلاحين، وعلّمتهم فّن إنتزاع الحقوق التي إستلبها الأقطاعيون، حتى صرت إيقونة من إيقونات كفاح الشيوعيين في ريف العراق. كيف تمكنت، وأنت الفلاح المحاصر بالعادات والتقاليد العشائرية الصارمة، أن تتبنى فكرة المساواة بين المرأة والرجل، وأن تدافع عن آدمية المرأة وحقها في العلم والحرية وتكافؤ الفرص. كيف إلتف حولك عشرات المبدعين من كتاب وشعراء وفنانين، يهدونك نتاجاتهم ويستمعون بشغف المتعلم لحكاياتك الجميلة فتدهشهم قدرتك على التواصل مع الكتاب بشكل مميز.
كنا نمضي، ياخال، بلا وطن ولا مأوى، نلوذ بالقصائد والأحلام المؤجلة، نلوذ بشعارات سرقت او بهتت ملامحها، وكنت تمضي برائحة اللوز، بالقرنفل، بالقلب المدمى، فتحملنا أجنحتك الى جنان الحزب حيث تهدأ النفوس وتتضح الرؤى. كنت، وأنت الفلاح الذي غادر مقاعد الدراسة صغيراً، تتمكن بيسر من تحديد نقطة التوازن بين التفريط والإفراط.. فلا تفريط بوحدة الحزب التي إفتداها الآف الفتية بأرواحهم ولا إفراط بـ "دسبلين" قد يحجب فكرة، لا بديل عنها في معترك المسار.
وفي كل المساءات التي كنت تلونها بالفرح، كنا نتعلم الكثير، حالما تتبدد دهشتنا من بساطة الحكاية التي ترويها عن ماض متجدد، وكان أخرها قبل ساعات من رحيلك، يوم فرحت بالروايات التي أعطيتك إياها، والتي لم يترك لك الموت وقتاً لقراءتها. حدثتنا عن سنيين من كفاح لا يلين، عن أجمل الأصدقاء وأوفاهم، عن الحزب، وقلت بلهجتك الجنوبية المحببة، وبمفرداتك السهلة الممتنعة:
- أتدرون لماذا يكرهنا الطغاة والفاسدون والطائفيون؟ لأننا ببساطة جذوة العناد لدى الشعب، فمنا يتعلم الناس، كيف تستعصي على السياط قاماتهم وكيف يتطهرون من اليأس ويعضون على الجراح ويمضون نحو غد الحلم.
هل كانت هذه وصيتك الأخيرة؟ لعلها!
إذن فلتنم قرير العين ياخال، فأنت لا تبقى نبضاً في عروق هذا الجيل من الشيوعيين فحسب، بل وأيضا نبضا في عروق الأجيال القادمة التي ستواصل المسار العذب. لإسمك ياخال، وشاح الخلود، ولنا الصبر والوفاء لك وللقيم الذي نذرت نفسك لها.