غالبية المتنفذين في الدولة العراقية، تفهم الديمقراطية على انها الانتخابات البرلمانية فقط، ولا شيء غيرها (بعكس الفهم السليم لهذا المصطلح السياسي) والتعاطي الحديث زمنيا معها في الممارسة العملية، فغالبية هذه الغالبية وإلى الامس القريب، كانت ترى فيها فكرة ومفهوما مستوردا من خارج البلاد، وهي لا تصلح إلا في الدول الاوروبية والمتقدمة.
إلا ان التطور السريع للاحداث والضغوط الامريكية والاوروبية، اوصلا الجميع الى ضرورة الاخذ بها، ولو جزئياً او نظرياً. اما التنفيذ العملي فما زال لحد الآن مقتصراً على آلية واحدة، وان كانت مهمة جداً من آليات الديمقراطية وهي الانتخابات، في حين ان الديمقراطية اكبر بكثير من الانتخابات، لا سيما اذا كانت على الطريقة العراقية، حيث يشوبها التزوير وشراء الذمم، ورفع رايات الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية.
اول مستلزمات نجاح الديمقراطية في اي بلد من بلدان العالم، هو توفير بيئة سياسية صحية في الشكل والمضمون، أي القناعة بأهميتها وصحتها، واعتمادها في السلوك والعمل اليومي، كشرط لا غنى عنه لقيام دولة تحترم نفسها ومواطنيها.
ومن هذا المنطلق تتفرع مستلزماتها الاخرى، واهمها دستور يجسد حقوق كل العراقيين بصرف النظر عن قومياتهم واديانهم وطوائفهم وعشائرهم، وقانونين عادلين للاحزاب والانتخابات، وهيئة نزيهة كفوءة، بعيدة عن المحاصصة لإدارة العملية الانتخابية. والاهم من كل ذلك احترام وصيانة الحريات العامة والشخصية وخصوصا حرية التعبير عن الرأي والمعتقد، وما تعنيه من حقوق التظاهر والاضراب والوصول الى المعلومة والشفافية وغيرها.
لكن الذي يحصل في العراق بعيد كل البعد عن هذا الواقع، رغم الشُح في الممارسة الديمقراطية، التي تمارس في بعض الاحيان لأسباب قد لا تكون القناعة من بينها وانما لأهداف سياسية او انتخابية لم تعد تخفى على احد، وإن كان حظه من الوعي قليلا.
ان ما حصل في الاسابيع الاخيرة، من تعامل لا ديمقراطي، بل قمعي مع المظاهرات الجماهيرية في المحافظات الوسطى والجنوبية، وفي بغداد على خلفية غياب الخدمات الرئيسية (الكهرباء والماء) وهي اكثر من مبررة، وطبيعية ومتوقعة بذريعة وجود مندسين ومخربين او من ذوي الاجندات الخارجية وحصول بعض التجاوزات هي في الاساس نتيجة لعدم تنفيذ الوعود والعهود المعطاة لهم، طيلة السنوات الماضية، غير مبرر على الاطلاق ولا يستدعي ابداً استخدام القوة المفرطة والرصاص الحي، او اعتقال المئات عشوائياً، كما لا يستدعي القيام باجراءات ترقيعية لامتصاص نقمة الناس وغضب الشارع العراقي.
ان المراد واضح وضوح الشمس، لمن في رأسه عقل سليم، يستطيع ان يتفهم ما يعانيه شعب، لا نظير لمعاناته في التاريخ الحديث، من خلال فسح المجال امام المواطنين للتعبير عن آرائهم وطموحاتهم في مظاهرات واعتصامات، أو اي شكل آخر من اشكال الحراك الجماهيري بصورة سليمة ومعاقبة المسيئين والمتجاوزين. وقبل هذا وذاك لا بد من تغيير اسلوب الحكم الذي ثبت فشله وفساده ودفن المحاصصة الطائفية والحزبية، وشل أيدي الذين اوصلوا العراق الى هذا الدرك المهين ومنعهم من العودة الى السلطة مجدداً، والاسراع في تشكيل حكومة وطنية، من الكفاءات المهنية النزيهة والقادرة على الخروج من هذا المستنقع الآسن.

عرض مقالات: