كثرة هم الذين يتحدثون عن أهمية وضرورة مكافحة الفساد، معتبرين إياه آفة يصعب تصور ان يتحقق شيء ذي شأن بوجودها، خاصة وقد غدا اخطبوطا وتعشّق في مفاصل الدولة المختلفة وامتد حتى الى المجتمع.
وقد وجد الفاسدون ضالتهم في المتنفذين، فأنشأوا معهم تحالفا غير مقدس، تخادميا، تصونه وتحرسه منظومة المحاصصة وتوفر له الغطاء والشرعية، فيما هو (الفساد) يقدم لها المال السياسي، لتأبيد وجودها ولحصر قرار الدولة بيدها.
انه التحالف غير الشرعي والخطير للسلطة والمال والاعلام.
لم تأت حكومة بعد ٢٠٠٣ الا وأعلنت انها في حرب شعواء مع ظاهرة الفساد، وان لا مساومة معه ولا مصالحة، حتى كاد صوت الاقطاب المتنفذين يطغي على أصوات المكافحين الحقيقيين ضد الفساد. وما زال البعض يواصل باسم حماية الشعب وامواله والدفاع عن مصالحه، الحاق افدح الاضرار ببلده وشعبه، بل وان العديد من اصحاب الأصوات العالية والكلام المعسول تحوم حولهم شبهات فساد .
وقد استمر على نحو مضحك مبكٍ تشكيل لجان التحقيق، التي لا تسمن او تغني من جوع، وتُعد مضيعة للوقت والجهد، وللمال أيضا.
وتنوع الفساد وتعددت تجلياته، فنجده في شيوع الغنى الفاحش والمفاجئ للنخب المتنفذة، وفي الاستيلاء على الممتلكات العامة واراضي الدولة وعقاراتها، وتهريب النفط وغيره من المواد، وغياب مبدأ تكافؤ الفرص في اشغال الوظائف والمناصب العامة، وفي بيع هذه الوظائف على كل المستويات ، وتفشي ظاهرة الرشى ، والنهب المنظم للمال العام، وتزوير الشهادات الدراسية والوثائق الرسمية، كذلك في الامتيازات المفرطة التي تتمتع بها الرئاسات الثلاث والنواب والوزراء واصحاب الدرجات الخاصة وحتى القضاء.
ويمثل سوء استخدام الاموال وسوء التخطيط للمشاريع شكلا آخر للفساد . ولدى وزارة التخطيط المئات من المشاريع المعطلة، التي لم تنجز في مواعيدها، مما سبب ويسبب خسارة وتجميدا وتآكلا وتفريطا باموال هائلة ضائعة او معلقة بين المحاكم والمصارف، وبالدعاوى المتبادلة بين دوائر الدولة والشركات والمقاولين، إضافة الى المشاريع الفاشلة والوهمية.
ومؤخرا قدمت هيئة النزاهة تقريرا اوردت فيه معطيات واسعة، تدلل على ان آفة الفساد ما زالت في طورها الفاعل جدا، وان طور تراجعها لم يبدأ بعد. وتضمن التقرير إحصائية لقضايا وملفات فساد، قامت هيئة النزاهة بمتابعتها وحسمتها من جانبها. ولكن اين انتهت، وكم من حكم قضائي صدر بشأنها، وكيف حسمها القضاء؟ هذا ما يريد المواطن معرفته، وما اذا حفظ الكثير منها بدعوى عدم كفاية الأدلة، ام ان “ الدولة العميقة “ تدخلت في الوقت المناسب وأخلت سبيل المتهمين، ووفقا للقانون بالطبع!
لقد اصبح جليا الان ان المكافحة الجدية للفساد لا بد ان تبدأ بالقمة، وان تشمل جميع الحرامية والفاسدين والمتلاعبين بالمال العام، بغض النظر عن مواقعهم الوظيفية ومسؤولياتهم السياسية والاجتماعية والدينية.
فهل هناك إرادة سياسية للاقدام على ذلك؟
يبدو انه لحد الان ، ما زالت المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد “ تخوط بصف الاستكان “ ، فمتى تأخذ المكافحة بعدها المجتمعي وتصبح هما وطنيا عاما ؟ من دون ذلك سوف يستمر النزف .