في منتصف السبعينات ارتفع منسوب المياه في شط العرب، فغرقت قريتنا الجنوبية. كانت هناك ثلمة في أحد كتفي النهر، ما أدّى إلى انهيار جزء منه، لتغرق البساتين والبيوت ووصل مستوى الماء إلى أكثر من متر.  ساعتها سارع أهلنا الى الحدِّ من تسرّبه بوضع الجذوع وأكياس الرمل والتراب في طريقه، ثم قاموا ببناء الثلمة وأحكموا ترميم وتقوية الكتف وتنشيف المنطقة، بعد فتح قنوات باتجاه الاراضي السبخة.

وقبل ثلاث سنوات ونتيجة لغزارة الأمطار وارتفاع منسوب المياه في الشط، حدثت تسريبات في نفس المنطقة لتغرق البيوت هناك وهي قليلة طبعا.إلاّ أن الناس استطاعوا وبهمّة عالية ان يوقفوا الفيضان ويصلحوا الكتف لمنع انهياره مرة أخرى!

تذكّرت هاتين الحادثتين حينما اتصل بي احد الأصدقاء في الأسبوع المنصرم قائلاً: الفاو غرقت، لماذا لا تكتب عموداً عنها؟ أجبته: البلد كله غرقان! نعم مدننا جميعها تغرق دائما عندما تكون الأمطار غزيرة، بسبب طفح المجاري وفيضان الأنهار!

الحقيقة تكمن في أسباب عدة لم نُعِرْ لها أهمية للأسف : الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة الذي أخذت سوسته تنخر في طول البلاد وعرضها، ومعها لامبالاة المواطن بل وتجاوزه على الأنهار والأرصفة والساحات، ما يؤدي إلى انسداد فتحات تصريف مياه الأمطار والمجاري، بجانب طمّ الأنهار وانسداد الفتحات الواصلة بينها نتيجة تكدس النفايات التي ترمى فيها. بالإضافة إلى عدم اهتمام المسؤولين بكل شيء، وكأنهم جاءوا من كواكب أخرى ليحكمونا ويسرقونا ويقتلونا ويغتنوا من خيراتنا ثم يعودوا إلى ديارهم . الطامة الكبرى التي حلت بهذا الوطن ــ ونتيجة لكل هذا وذاك، انه ما أن ترسل السماء رسائلها حتى تظهر عيوبنا جميعا للعيان!

بناء المدن والبلدان وتطوّرها يا سادة، لا يحتاج إلى مؤتمرات واجتماعات وخلايا أزمة وتصريحات نارية وشعارات نطلقها هنا وهناك! انما يحتاج إلى ضمائر حيّة، تعشق الأرض ومن عليها، وتسعى في خدمة الناس بالعدل والنزاهة والمحبّة والعمل الجاد المخلص والشعور بالانتماء الحقيقي لكل ذرة تراب في هذا البلد، كذلك بتكاتف الناس ومحبتها لبعضها وسعيها الى الخير دائما، وليس إهمال كل شيء والزعم : هذا لا يعنينا، وعلى الدولة أن تعمل كذا وكذا، و(آني شعليّه)!

إذا كان المسؤول فاسدا، لماذا أكون مثله واترك الحبل على الغارب؟!

وإذا لم تلتفت الدولة للبناء والتعمير، لماذا أخرّبُ أكثر وارفع راية الإهمال واللامبالاة والاستحواذ على كل شيء ؟

علينا أن ننهض جميعا ونمدّ أيدينا للعمل والبناء والأعمار رغم كل شيء، كي نحمي مدننا من الغرق ونبعد عنها شبح الخراب والدمار!