عقب اسقاط النظام الدكتاتوري على يد المحتل الامريكي، وتولي "بول بريمر" إدارة شؤون البلاد بصلاحيات مطلقة، واتخاذه قرارات مصيرية أدخلت العراق في نفق يزداد عتمة بمرور الايام والسنين، ومنها كما هو معروف حل الجيش العراقي، وتفتيت مؤسسات الدولة، واستبدال التركيبة السياسية بتركيبة طائفية إثنية ثلاثية الابعاد (شيعة، سُنّة، أكراد) ليزرع بذرة المحاصصة الفاسدة في الجسد السياسي العراقي، والتي سرعان ما تلقفها طلاب الزعامة، والطامحون الى استباحة الوطن، ونهب ثرواته الطائلة، وتعهدوا تلك البذرة بالرعاية والاهتمام الاستثنائيين، لتصبح بعد حين شجرة وارفة الظلال، ثم غابة يصعب اجتثاثها..
عقب ذلك انقسم الساسة العراقيون إلى ثلاثة أقسام، الاول بالغ في الترحيب بالاحتلال، وخلع على الامريكان تسمية المحررين، رغم أنهم قالوا بأنفسهم انهم محتلون، فضلاً عن القرار الشهير لمجلس الامن الدولي بوضع العراق تحت سلطة الاحتلال الكاملة.
والقسم الاَخر كان يعتقد بأن الامريكيين إرتكبوا بعض الاخطاء، لانهم لم يتعرفوا جيداً على طبيعة المجتمع العراقي، ولم يكن لهم إلمام بعاداته وتقاليده، رغم أنهم رأوا بأم أعينهم النتائج الكارثية لسياسة وقرارات "بريمر" وربما نعته البعض من هؤلاء بالغباء.
أما القسم الثالث فكانوا يمتلكون من الوعي ما يشفع لهم بتفسير الأمور على حقيقتها، دون أن ينخدعوا باليافطة المزيفة التي رفعها "بريمر" تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الانسان، وأن ما قام به ليس خطأ أو جهلاً أو غباءً، وإنما هو جزء من استراتيجية الهيمنة الأمريكية على العراق ومنطقة الشرق الأوسط برمتها.
لا حاجة لاستعراض الخطوات التي اتبعها المتنفذون والفاسدون، للإبقاء على المحاصصة الطائفية والحزبية، والتشبث بها تشبث المحتضر بالحياة، لأنها طوق النجاة لهم، والسلّم الذهبي الذي أوصلهم الى الفردوس التي ما داعبت جفونهم حتى في المنام، لكنهم عملوا على تغطيتها لسنوات طويلة بدثار سميك من الكذب والخداع والضحك على العقول، مدعين زوراً بأنهم مدافعون أصلاء عن الطوائف والاطياف الفرعية الأخرى، وبالتالي عن الشعب العراقي دون إقصاء أو تهميش لأحد، وإنهم حققوا له مكاسب وإنجازات، تحسده عليها شعوب البلدان المختلفة!
وعندما اندلعت الانتفاضة البطولية منذ خمسة أشهر، وقدمت ثمناً باهضاً جداً من الشهداء والجرحى والمعوقين، من أجل تحقيق أهدافها وطموحاتها في تشكيل حكومة وطنية نزيهة تستطيع تمهيد الطريق لانتشال العراق شعباً ووطناً من المستنقع لحكمهم الغارق في الفساد واللصوصية، أخذوا يصرحون بوقاحة ما بعدها وقاحة بأنهم داعمون للانتفاضة ومطالبها المشروعة، وضد المحاصصة المقيتة والفساد وسوء الادارة، وإنهم ليس لديهم مطامع شخصية أو فئوية، وقد تنازلوا عن حصصهم في الوزارة الجديدة، وخولوا السيد "علاوي" تشكيل حكومة من المستقلين الأكفاء استجابة لما يريده الشارع العراقي وساحات الاحتجاج.
لكن الغربال لا يمكن أن يغطي ضوء الشمس، ولذا سرعان ما انكشف زيفهم وتضليلهم وأمراضهم المزمنة في تقديس المحاصصة وكرسي السلطة، بمجرد أن أعلن المكلف أسماء كابينته الوزارية، التي لم تلب مطالب المتظاهرين أصلاً، والتي خلت نسبياً من ممثليهم المشبعين بفكرة هي الأسوأ في عالم السياسة، ومفادها أن المسؤول والكادر الحزبي الناجح هو من يستطيع سرقة أكبر قدر من المال العام والخاص لصالح حزبه، ولنفسه أيضاً.
إن المنتفضين من الشباب والنساء وسائر فئات المجتمع، سيواصلون تصديهم البطولي لهذا النهج المدمر، وسيقبرونه، ويشيّدوا على انقاضه نظاماً ديمقراطياً يتسع لجميع العراقيين، ويعيد لهم الوطن الذي سلبتموه، وخربتم أجمل ما فيه.

عرض مقالات: