رغم القرف الذي تسببه متابعة أحاديث وتصريحات الكثير من المتنفذين، لما تتسم به من تضليل غير متقن الصنع وإدعاءات مصطبغة بعدم الحياء، فإن من نكد الدنيا أن يكون المرء مجبراً على متابعة تلك الأحاديث، لمعرفة مصير وطن وشعب أفنى زهرة شبابه في الدفاع عن حريتهما وسعادتهما.
ولعل من أبرز ما يثير الحنق أن يندهش هؤلاء من حدوث الإنتفاضة الشعبية الباسلة، ويسعون خائبين لوصفها بالمؤامرة وربطها ببعض ممن كانوا حتى الأمس أولياء نعمة وحلفاء، معيدين الى الذاكرة حكاية الضابط الفاشي الذي دمرت طائرات حكومته قرية الغورنيكا أبان حرب الشعب الإسباني للدفاع عن جمهوريته أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، حين سأل بيكاسو عن لوحته التي خلدت تلك القرية الشهيدة، قائلاً: هل أنت من عمل هذا؟ فأجاب بيكاسو: لا بل أنتم! وإذا لم يشأ أحد من هؤلاء أن يقتنع بذلك، فيمكنه أن يعود لإحصائيات وزارة التخطيط، في حكومة أوصلته إنتخابات مزورة للسيطرة عليها.
تشير تلك الإحصائيات (2018) الى إشتداد التفاوت الطبقي في البلاد بشكل مريع، حيث يعيش 22.5% من الناس تحت مستوى الفقر وحيث يحصل 8.5 مليون عراقي على 17.8% فقط من نصيبهم من الدخل القومي، وحيث تتصاعد يومياً معدلات البطالة لتصل الى 11.5% في المدينة و8.75% في الريف، وحيث يعيش 10% على الأقل (حوالي 3 مليون مواطن) من سكان المدن في العشوائيات، مهددين بهدم بيوتهم فوق رؤوس عوائلهم لأنهم تجاوزوا الحدود التي رسمها البيرقراطيون وسراق المال العام!
كما تعكس تلك الإحصائيات ماحققته سلطة المتنفذين طيلة 16 عاماً من "سعادة" و"رفاهية" لهذا الشعب، حين تشير الى أن 80% من العراقيين غير راضين عن عملهم، ومثلهم يشكو من دخله المتدني. وأن 93% منهم يعانون من تدهور الخدمات الصحية و86% من تدهور التعليم و94% من الحياة غير السعيدة.
وإذا ما عرف هذا البعض أن الشعب العراقي شعب شاب، حيث تبلغ نسبة من هم أصغر من 30 سنة 68% ومن هم بين الثلاثين والخمسين سنة 21.7%، لفهم لماذا كان الشباب أداة الانتفاضة ومحركها الأهم، ولأدرك حجم المأساة التي سببها لهذا الشعب، حين أدت سياساته لخروج 24% من حملة الشهادات العليا من سوق العمل ولوقوع مايزيد عن مليوني شاب (دون الثلاثين سنة) في جحيم البطالة والعوز. إضافة الى تفشي الأمية، أبجدية وحضارية، في البلاد (والتي بلغت 17% بين من هم دون الرابعة عشرة والى 28% بين من هم دون الثلاثين)، وتزايد حاجة اليافعين الى ترك الدراسة لأسباب معيشية (بلغت هذه الزيادة خلال عام واحد (2016) 67 الفاً) وإرتفاع نسبة المتسربين من المدارس والتي وصلت الى 34%.
ولأدرك هذا البعض أيضاً مأساة المرأة العراقية، التي ضربت مجدداً، إبان الإنتفاضة، أمثلة رائعة على حقها المشروع بالمساواة مع الرجل، حين أوقع النساء في جحيم البطالة (ضعف ما يعانيه الرجال) وقلص من دورها في النشاط الاقتصادي الى خمس دور الرجل، وزاد من تفشي الامية في صفوفها وشدد من تغيّبها عن المساهمة النشيطة في الحياة الثقافية والاجتماعية، ووسّع مشكلة تزويج القاصرات (زاد عدد الأمهات القاصرات على مليون طفلة) وسبّب زيادة في معدلات الطلاق وفي إنتحار الشابات بشكل مقلق!
بعد كل هذا، هل حقاً يريدون أن يعرفوا من أشعل الإنتفاضة، وهل يحق لهم أن يدهشوا من "جحود" هذه الشبيبة لهم رغم ماحققوه لها من "منجزات"؟!
هل حقاً لا يعرفون؟!
- التفاصيل
- د. ابراهيم اسماعيل
- آعمدة طریق الشعب
- 1451