أن تجعل من حدثٍ ما أسطورةً في هذا الزمان، فهو عملٌ يجب الوقوف عنده، وتأمله كثيراً، والتعلّم منه لما سوف يجيء من أعمالٍ وأحداثٍ قد تكون مشابهة أو مقارنة له!
المطعم التركي، أو العمارة التي تقع عند رقبة جسر الجمهورية في بغداد، والمطلّة على نهر دجلة من جهةٍ، وساحة التحرير من الجهة الأخرى، هذا البناء المهجور منذ أكثر من ست عشرة سنة، والذي كان في ما مضى استراحة البعض من أركان النظام السابق، ثم تحوّل إلى مأوى للقطط والكلاب والمشردين بعد خرابه، حوّله اليوم الشباب الذين آمنوا بالوطن ، وفتحوا صدورهم عارية أمام الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيّل للدموع، إلى أسطورة بدأت تدور حولها الحكايات والقصص البطولية ، وتتناقلها القنوات الفضائية والصحف العالمية والمحلية !
مكانٌ مهجورٌ تحوّل بين ليلةٍ وضحاها، ورغم ما يعانيه الشباب من ضنكٍ وفاقة وتهديد، إلى أيقونة تتغنى بها الناس في كل مكان!
ربّ سائل يقول: كيف استطاع هؤلاء الفتية أن يجعلوا من مكانٍ خربٍ ومهجورٍ أيقونةً للثورة والتمرّد ضد الفساد والعنف، وان يحولوا ظلامه نهاراً تشعّ أضواؤه كالنجوم المتلألئة، وطوابقه إلى قاعات لتعليم الناس معنى الحرية المنشودة:
الشباب هم صانعو المستقبل في كل مكان وزمان، إذا تفتّحت أمامهم أبواب العمل وتحقيق الأمل والدعم والتشجيع والاحتضان الأبوي الرحيم، لهذا تمرّدوا على واقعٍ مزرٍ، وبسبب قلقهم وخوفهم من مستقبلٍ مجهول سيضيعون فيه، تمرّدوا!
حينما لم يجدوا فرصاً للعمل، وبات الواحد منهم عاجزاً أمام أجرة نقل من بيته إلى أي مكانٍ، تمرّدوا!
وحينما شاهدوا أخوتهم الذين سبقوهم في الحياة عاجزين عن العمل لعدم توفّر فرص التشغيل، وباتت الأرصفة والأسواق ملاذهم، تمرّدوا!
وحينما ضاقت سبل العيش بهم وبعوائلهم، وهم يبصرون مَنْ استحوذ على زمام الأمور يتنعّم بالخيرات ويعبّ الملايين من الدولارات، ويتنعّم وعائلته بالراحة والاستجمام هنا وهناك، رغم ما مرّ ويمرّ بالبلاد من ألم ودماء ودفاعهم وتضحيتهم أمام كل التحديات، تمرّدوا!
وحينما فتحوا عيونهم على ماضٍ مصبوغٍ بالدم والاعتقالات والسجون والحروب، وحاضرٍ بائسٍ يرزح تحت أقدام الفاسدين الذين سرقوا الكحل من عيون الصبايا والأمهات، وضاقت منافذ المستقبل، تمرّدوا!
الشباب الذين وُلِدوا في ظل حصارٍ جائرٍ، وشبّوا في ظل واقعٍ يفتقر إلى ابسط الحقوق والخدمات، تمرّدوا!
تمرّدهم جاء صيحة غضبٍ وصرخة حقٍ في وجه سلطان جائر، فتحوا الصدور عارية لتعبّ رئاتهم ما استطاعت من دخان الغازات المسيّلة للدموع، غير عابئين بالرصاص والموت، إذا كان الموت يحقق لهم بعض ما يصبون إليه!
وبتمرّدهم هذا صنعوا أسطورة حكت وستحكي عنها الناس أجيالا فأجيالا!
أثبتوا للعالم أنهم صنّاع حياةٍ مهرة، يحوّلون التراب ذهباً، والماء عسلاً، ويصنعون من الخرائب ناطحات سحاب تشعّ صفاءً ونقاءً كصفاء ونقاء قلوبهم!
لهذا أعطوهم الفرصة كي يبنوا بلاداً لم تستطيعوا بناءها بفسادكم، حوّلتم عماراتها إلى خرائب، وأوغرتم القلوب على بعضها!
أعطوهم الفرصة ليعيدوا للبلاد صفاءها ونقاءها وتوحّدها وجمالها وبهاءها، فهم أسطورة الخلق الجديد ، ومستقبلنا جميعاً !
والمطعم التركي ــ أسطورة الأحرار وقلعتهم ــ أروع مثال على محبتهم وتوحدهم وانتمائهم الحقيقي للناس والوطن!