وأنا أخطو صوب المدرسة ، كان أبي يحثّني على المواظبة والنشاط والدراسة بجدٍّ واجتهاد كي أحصل على الدرجات العليا ، وكل ما أحتاجه يوفره قائلاً : أريدك تنجح وحينما تكبر تصبح دكتورا أو مهندسا أو أستاذا !

كنت أجيبه : لا بدّ من هذا حتماً !

في الابتدائية كنت الأول دائما ، حتى في الامتحان الوزاري حصلت على المركز الثالث في عموم المحافظة  أوائل السبعينات ، رغم أنني من قرية في أقصى جنوب الجنوب ، ووالداي أميّان.

في المتوسطة أيضا  كنت من الأوائل ، وشاءت الصدف أن يرحل والدي في أول أيام الامتحان الوزاري للسادس الإعدادي ، ما أربك وضعي النفسي لأترك الامتحانات وأعيد السنة بالكامل ، فتأثر وضعي بشكل كبير ، وتغيرت مساراتي كلها ، خارج إطار ما حلمت به وحلم به أبي أيضاً  وكما يقال :ــ  تجري الرياح بما لا تشتهي ..

تذكرت تلك الأيام رغم أنني حصلت على الدبلوم والبكالوريوس ، لكنني أشعر بالغبن والحزن لأنني لم أحقق حلم أبي رغما عني طبعا !

تذكرتها وأنا أشاهد أخوتنا وأخواتنا أصحاب الشهادات العليا والمهندسين يهانون بطريقة بشعة، لا تنمّ عن وعي ومعرفة بما تعنيه الشهادة العلمية حزّت في نفسي ونفوس الجميع ، كما شعرت بالأسى والحسرة على وطن يهان فيه صاحب الشهادة الذي سهر الليالي وكافح كي يحقق حلمه وحلم أهله ، بلا سبب سوى انه طالب بحقّه في التعيين والعمل لغرض توفير لقمة العيش ، وهذا الحق تكفله كل دساتير العالم ، لأن للمواطن حقاً في العيش الرغيد والسكن اللائق وفرص العمل والعلاج والتعليم والمكانة الاجتماعية المرموقة في وطنه ، لا أن يترك في مهبّ الريح تتقاذفه أمواج العوز والفاقة والبحث عن فرصة عمل هنا وهناك دون جدوى وبلا مأوى وتنخر الأمراض جسده ، وحينما يتظاهر مطالبا بحقّه يهان وتطلق عليه صفات وألفاظ لا يقبل بها العقل والضمير !!

إذا تعاملنا مع العلم بهذه الطريقة البائسة ، فكيف لنا أن نسعَ  لبناء وطن ، ونحقق مستقبل أجيال قادمة تحلم بالعيش كما الناس في كل بلدان العالم ؟

لماذا نجعل من أبنائنا أعداءَ لنا ، ونعاملهم وكأنهم جاءوا من كوكب آخر وحرامٌ عليهم العمل والعيش والسعادة ، ما يجعلهم في حيرة من أمرهم بين البقاء أو شدّ الرحال والهجرة إلى الخارج لتستفيد من خبراتهم وشهاداتهم بلدان أخرى ؟!

لماذا لا نفكر بآلية بناء الوطن الجديد بشكل صحيح ، ونخطط لذلك بضمير حي وعقل عراقي خالص النقاء ، كي نقدم أنموذجا راقياً وحضارياً في التخطيط العمراني لكل شيء ؟

احترام العلم ، وتقدير الطالب والأستاذ والطبيب والمهندس والفنان والشاعر والكاتب والعامل،  احترام لإنسانية الإنسان ولتربة الوطن وقدسيته ، وسعي حثيث لبنائه بما يليق باسمه حقا.

لهذا علينا أن نعيد حساباتنا ونعي مسؤولياتنا تجاه الوطن والناس حتما !