عندما تضعف هيبة الدولة، وتتعدد مراكز القوى فيها، خاصة اذا كانت محمية بأذرع عسكرية، والفساد يتحكم بجميع مفاصلها، ساعتها يتحول الوطن الى مباءة لكل نفايات الأرض، والشعب الى رقعة شطرنج يتحكم بحركة بيادقها المتنفذون والفاسدون وكل من استأصل ضميره، وألقاه في مزبلة المحاصصة واللصوصية، سواء كان في داخل العراق او يعمل من خارجه. فعلاقة التخادم المتبادل هي السائدة بين الطرفين.
الاكتفاء الذاتي، وفي القلب منه الأمن الغذائي، هو ما تسعى الدول صغيرها وكبيرها الى تحقيقه بشكل من الاشكال، لتأمين حياة شعوبها، ودرء مخاطر الجوع والتفاوت الطبقي الصارخ، وما ينتج من توترات اجتماعية تصل الى حد الثورة على الحكام احياناً، وتتجنب في الوقت ذاته الضغوط عليها من الدول الاخرى، او تقلل من تأثيرها في الاقل.
اما في العراق فما يحصل هو العكس. فكلما استطعنا بشق الانفس، الوصول الى الاكتفاء الذاتي او الاقتراب منه، يظهر وبقدرة قادر مرض لم يسمع به احد من قبل ليدمر ما تحقق، ويعيد الامور الى سابق عهدها.
خلال سنة واحدة او تزيد قليلاً، حدثت ثلاث حالات من هذا النوع، كانت مفاجئة للجميع، وأدت الى هلاك جزء من الثروة الحيوانية او الزراعية، التي استغنى العراق عن استيرادها من دول الجوار وتوفير العملة الصعبة التي كان يدفعها لهذه الدول.
الماشية كانت اولاً، ثم نفوق ملايين الاسماك، بمرض مفاجئ اصاب غلاصم الاسماك، حسب ادعاء الجهات الرسمية ولجان التحقيق المكلفة بمعرفة الاسباب الحقيقية لهذه الكارثة، وهل ان فايروسات هذا المرض هبطت من السماء على حين غرة عن طريق كائنات من خارج الكرة الارضية؟ ام كانت مختبئة في اماكن مظلمة تنتظر فرصة اكتفاء السوق المحلية من الاسماك وهبوط اسعارها بدرجة كبيرة؟
ثم جاءت كارثة الطماطة، حيث تضررت بالكامل او جزئياً، اربعة آلاف مزرعة في الزبير ونواحي البصرة لوحدها، بعد ان اتخذت الجهات الرسمية قراراً بإيقاف استيرادها لأن انتاجها اصبح يغطي السوق المحلية وربما يزيد قليلاً.
وقبل كل هذه الآفات والكوارث يتذكر الجميع ما حصل لمعامل الطابوق وعدم تزويدها بالنفط الاسود، وكذلك معامل الاسمنت الذي يعدّ انتاجها من اجود الانواع على صعيد العالم كله.
والشيء بالشيء يذكر، فحكاية الكتب المدرسية وطبعها خارج العراق، بينما المطابع العراقية عاطلة عن العمل، باتت معروفة للجميع ومعها ايضا البطانيات واحذية الجيش التي لم تشتر من الشركات الوطنية العراقية المنتجة لها بذريعة نوعيتها، وبالتالي وجوب استيرادها من دول وشركات معينة بأسعار اكثر من مضاعفة قياسا باسعار المنتجات العراقية!
هذا غيض من فيض ما يجري في العراق، فهل هي نوبة من نوبات الكرم الحاتمي، والرغبة في مساعدة الجيران والخلان؟ ام ان وراء الأكمة ما وراءها؟ لا شك ان جيوب بعض المتنفذين يتآكلها الحنين للامتلاء وإن من السحت الحرام. ومن وضع قدمه على هذا الطريق لا بد وان يواصل المسير، لا سيما اذا كان مطمئناً، انه بمنجى من المحاسبة او سلطة القانون.
آن الأوان لإيقاف هذه المهازل بالضغط على السلطات الثلاث، من خلال الحراك الجماهيري والممارسة البرلمانية السليمة، من قبل النواب المخلصين لشعبهم، والمشهود لهم بالنزاهة والوطنية والايمان الحقيقي بالديمقراطية.

عرض مقالات: