البصرة .. منذ تمصيرها عام 16 هجرية ، وهي منبع ثرٌّ للثقافة والأدب والفن والعلم والثروات الطبيعية ، ومنها انطلقت الأفكار والرؤى فكان المعتزلة وإخوان الصفا والمرجئة وغيرهم . في مربدها تبارى الشعراء ومازالوا يتبارون ، وعلى شواطئها سهر السمّار وغنى المطربون وعُزِفت الهيوه والسامري، وبين أزقة عشّارها عزف تومان بنايه معلناً عن فيلمٍ سينمائيٍّ جديد، ومن ماء شطّها العذب شَرِب الرحّالة القدامى والحديثون  ، مُزِج عسل رطبها بزيت السمسم فصار حلاوة نهر خوز. كم من الحروب مرّت عليها ، وكم من خرابٍ في سالف الزمان وحالياً؟

طفت الجثث في أنهارها وسالت الدماء بسككها ودرابينها من أثر ما فعلته السيوف سابقاً، وتهدّمت بيوتاتها واصطبغت شوارعها بالدم من أثر الرصاص لاحقاً ! ولم تمت أبداً ، إنها عنقاء الزمان .

البصرة مدينة الملح والتمر والحنّاء والماء العذب والأسماك والخضروات بأنواعها ، كما هي مدينة النفط ومشتقاته والصناعات المكملة له كالبتروكيمياويات والحديد والصلب والأسمدة والورق، وهي بوابة العراق والميناء الذي يطل على العالم .

البصرة حباها الخالق بثروات لن تنضب أبدا ، كما منحها صبراً لن تتحمله الجبال والهضاب إذا اجتمعن .

البصرة ناقةٌ حلوبٌ ولودٌ تحمل ذهباً ، لكنها تأكل العاقول والأشواك .

البصرة ابتليت بمن يتسيد عليها في كل زمان، ما أن يستقر به المقام على الكرسي حتى يشرع بالنهب وكأنه مدفوع على تخريبها . البصرة مر بها الساسة والقادة والشيوخ والأمراء ، كما العبيد والمماليك والصعاليك، البصرة تكسر الخاطر دائما لأنها مأكولة مذمومة كسمك الصبور .

الكلّ يأكل من خيراتها لكنّ أبناءها يتضورون جوعاً ، والكلّ يلبس من خيراتها لكن أطفالها عراة ، نفطها يدفئ العالم لكنها ترجف من البرد.

الإهمال مرضها المزمن منذ سنين ، والخراب صديقها اللدود الذي لن يفارقها.

انعدمت زراعتها ومات النخل واقفا  ، وتوقفت معاملها وصار ماؤها آسناً ، نخر الفساد جسدها الطريّ ، فصارت تئن وتندب حظها العاثر الذي( يدولب) بها من يد  إلى أخرى .

لهذا أقول نصيحة للجميع :ــ يا كلَّ من شَرِبَ من مائها وأكل من رطبها انتبهوا لحال مدينتكم قبل فوات الأوان ، ولا تتصارعوا على مُلكٍ زائل ذات يوم، لا تتصارعوا على الكراسي والمغانم فيخذلكم الزمان، ويتسرب كل شيء من بين أيديكم فتذهب ريحكم ، وتصبحوا نادمين .

البصرة أمّنا جميعاً ، فداءٌ لها كل شيء ، المالُ يأتي ويذهب ولن يبقى إلاّ العمل الصالح الذي ينفع الناس جميعا ، والكل يأتي ويذهب ولن يبقى إلاّ الذكر الطيب بين الناس.

فقط تأملوا كلّ ما مرّ بالبصرة منذ تمصيرها حتى هذه الساعة.

البصرة أمنا الرؤوم ومدينتنا التي تسكننا لا تضيعوها بصراعاتكم رجاءً .