كانت غافية على ضفاف شط العرب حالمة بمستقبل جميل لأبنائها البررة ، تحرسها بساتين النخيل، واشجار  العنب والخضروات ، تغص اسواقها بأنواع التمور واجودها وفي مقدمتها البرحي والكنطار والخضراوي ،اما اسماكها فهي متنوعة تجوب الانهر من الجنوب حتى القرنة ، سمك  البني  والشانك  والزبيدي والصبور الذي كان  له حظوة كبيرة لدى اهل البصرة بالرغم من اسعاره الغالية في بداية الموسم ، وقد تنخفض اسعاره في بعض الاوقات ليباع بالجملة رخيصا يستطيع شراءه البسطاء اصحاب الدخل المحدود ، ساحاتها بسيطة وجميلة تشهد ازدحاما في المساء وحتى ساعات متأخرة ليلا ، يعيش اهلها الامن والامان ، اما نواديها فهي منتشرة في ذلك الوقت خرٌجت العديد من الرياضيين في مجال كرة القدم والسلة والعدو وكمال الاجسام والملاكمة  وحمل الاثقال ونذكر بهذا الصدد الرباع العراقي البصري عبد الواحد عزيز في الخمسينات، وقد مثل العراق رافعا علم بلاده وحيدا ،اما شط العرب الجميل بمياهه وحركة القوارب والابلام والماطورات والسفن  تنقل الزوار والمحتفين الى مسافات بعيدة الى الخورة حيث البساتين الجميلة حينها  وخاصة في عيد نوروز  وما يعرف( بالكسلة)، او عمل سفرات مدرسية او شعبية الى مناطق   (الاثل) قرب الزبير لينزل المحتفون ويقوموا بفرش ما لديهم من اجل الجلوس، ويبدئون بالأغاني والفعاليات الاخرى كلعب كرة القدم ، ليضفوا اجواء فرحة وبهجة ، بعدها يبدا التحضير للأكل والمشروبات .

يشق البصرة نهر العشار من بداية شط العرب حتى البصرة القديمة الذي كان جميلا تتدفق مياهه النظيفة تنتصب على جوانبه  المقاهي كمقهى ابو مضر التي يطلق عليها مقهى ( الدكة) التي يرتادها الاساتذة والمثقفون والفنانون والطلبة ، يتجاذبون اطراف الحديث حول العديد من الامور التربوية والثقافية والسياسية تتخلل حديثهم الضحكات البصرية الجميلة ،

اما شناشيل البصرة فهي لوحة جميلة تعكس روعة الفن والزخرفة والبناء بشبابيكها الخشبية الجميلة التي تفتح لاستقبال الهواء العليل ، تنتصب هذه  الشناشيل لتعكس وجه البصرة القديم وحضارتها .اما السينما فهي حاضرة بشكل قوي تتنافس على عرض الافلام  المختلفة الجيدة حينها( كام الهند) التي تحكي قصة جور الاقطاع والمقاومة من الفلاحين  وكذلك ( سبارتكوس ) محرر العبيد  وهي عديدة كسينما شط العرب والحمراء الجديد والكرنك والرشيد والوطن ، وهذه السينمات تختار في الترويج لهذه الافلام وجوه يعرفها البصريون كما هو( تومان ) حيث يقوم بطريقته الخاصة المتمثلة بعزف الفيفرة بأنفه ليخرج صوتا موسيقيا شجيا يلفت المارة له يتبعها برقصات تزيد البهجة في النفوس وطريقته هذه تدل على قدرة فنية نادرة حينها.

اما شعراء وادباء وفنانين البصرة كانوا نشطون لهم  تأثيرهم البارز في اجواء البصرة الثقافية وخاصة الهادفة منها ، وبرز  في تلك الفترة شعراء وادباء لاتزال اسماءهم تعيش في ذاكرة ابناء البصرة منهم بدر شاكر السياب ومحمود عبد الوهاب  وكريم كاصد والبريكان   ومهدي محمد علي  صاحب كتاب ( البصرة جنة البستان ) والفنان والشاعر محمد سعيد الصكار  ومحمد خضير  وذياب كزار  و غيرهم الكثير، كذلك كان لفناني البصرة مكانة مرموقة وبرز منهم العديد  امثال فؤاد سالم وطالب غالي وداود الغنام  وغيرهم ، اما في فن الرسم والنحت فقد برز في البصرة فيصل لعيبي وعفيفة لعيبي  وصلاح جياد والصكار وعلي لعيبي   ، اما  المسرح  فكان له حيزا متميزا تعرض فيه مسرحيات وطنية تستهدف استنهاض القيم وتدعوا الى الالفة والمحبة والوحدة الوطنية ( كمسرحية انا امك يشاكر ) وكان مقره في الادارة المحلية بالجبيلة  .

اما مدارس البصرة فقد كانت دور حقيقية للعلم والمعرفة والتربية ، يضع الاساتذة فيها عصارات فكرهم وخبرتهم في سبيل رفع مستوى الطالب ليكون من بناة البلد مستقبلا، وكان الاساتذة عينات نادرة يفتخر بها ابناء البصرة وطلابها امثال ابراهيم الاصيبعي مدرس الرياضيات ومدحت هشمت مدرس الجبر والمثلثات وهاشم الطعان استاذ اللغة العربية ومنصور كوركيس ، ومحمود عبد الوهاب وهم وجوه تقدمية غرست الثقافة الوطنية في نفوس طلابهم مع المعرفة العلمية ولذلك كانوا دائما مستهدفين من قبل دوائر الامن ،وتميز الاستاذ الفاضل حميد مجيد مدير مدرسة الرجاء العالي المعروفة حينها بمدرسة ( امريكان ) كونه مربيا فاضلاً بحق

اما المكتبات في البصرة فكانت كثيرة ومتنوعة امثال مكتبة المثنى التي تحولت الى محل احذية لاحقاً  !! ومكتبة فيصل حمود في البصرة القديمة، ومكتبة الشرق في حنا الشيخ ومكتبة برجو في الشارع الوطني .

هكذا كانت البصرة في الخمسينات والستينات ومنتصف السبعينات تعيش فترة ذهبية زاهرة .

اما اليوم فالحياة في البصرة مع الاسف لا تطاق بسبب الاهمال في كل مناحي حياتها ، فالجوع والبطالة والخراب والتدمير وفقدان الخدمات الضرورية كالكهرباء والماء الصالح للشرب ، علما ان البصرة تنتج  اكثر من ثلاثة ارباع نفط العراق ، لكنها تعيش هذا الاهمال والإصرار على  هذا الاهمال ،  يجعل اهل البصرة يعتقدون بان هناك تعمد مقصود في ان تعيش البصرة هذه المخاطر البيئية والصحية ،  واخرها المياه المالحة والتسمم الذي ينبأ بمخاطر جمة ستشهدها البصرة واهلها ، بدأت تلوح معالمها من خلال الاعداد الكبيرة من المصابين والمرتفع تصاعديا ، حتى ان التوقع وارد بتحولها الى مدينة ( منكوبة ) طالما لم تكن هناك نية صادقة حقيقية بانتشال البصرة من هذا الواقع البائس !وقد خرج ابناءها من خلال الاحتجاجات والتظاهرات، لتؤكد ان نظام المحاصصة البغيض هو السبب الرئيس في هذه المعاناة والتخريب بالعراق عامة والبصرة خاصة ، وحل هذه الازمات وايقاف الفساد يأتي من خلال مشروع دولة مواطنة، دولة قانون وعدالة اجتماعية ،تضع في برنامجها تغيير حقيقي واصلاح يحقق مطاليب الجماهير المشروعة  .

 لقد اوصلتم ايها المتنفذون الفاسدون  الوطن ككل والبصرة خصوصا الى هذا المنحدر الخطير ، نقول ان البصرة كانت وما تزال لم تعذب محب ابدا، الا انكم قد عذبتموها وهي لن تخفر لكم ذلك وستأخذ حقوقها المشروعة بالطرق السلمية التي بدأتها الجماهير وستستمر على ذلك وستوسعها وتطورها بأشكال مختلفة، في حال لم يجر التغيير المنشود .

عرض مقالات: