التظاهرات التموزية التي اندلعت ضد الفساد واحزاب الفاسدين في مدن الوسط والجنوب العراقي والمستمرة، عكست تحولاً في المزاج الشعبي العراقي ضد تجربة الاسلام السياسي الفاشلة، ولأجل بناء دولة بملامح مدنية.
فأعنف المظاهرات الغاضبة خرجت من مناطق كانت تعتبر حواضن ومراكز نفوذ قوى الاسلام السياسي الشيعي وميليشياته، المكينة.
حيث بلغ مستوى الرفض الشعبي لهذه القوى حد المطالبة بإلغاء احزابها ورفع يدها عن العراقيين ثم تطورت الاحتجاجات الغاضبة، في احيان متعددة، لتتحول الى عمليات حرق لمقراتها تحت وابل من رصاص حراسها من ميليشيات هذه الاحزاب.
الاجراءات السلطوية التي اعتمدتها الاحزاب الحاكمة تتراوح بين القمع البوليسي والتغرير بالمواطن وتخديره بوعود فارغة.
القمع البوليسي، تجسد باستعمال مفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين باستخدام العصي الكهربائية وخراطيم المياه الحارة والقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي الذي اودى بحياة العشرات من المتظاهرين العزل وجرح مئات اخرى، وليس انتهاءاً باعتقال المئات منهم وتعريضهم للتعذيب وإجبارهم على توقيع تعهدات، حسب التقليد البعثي المقيت، بعدم العودة للتظاهر والمطالبة بالحقوق والتخلي عن حقهم الدستوري في حرية ابداء الرأي.
ووصلت الاجراءات التعسفية حد فصل عاملين في مؤسسات الدولة من عملهم لمجرد ابداء دعمهم للتظاهر السلمي.
وكانت اكثر اساليب القمع مدعاة لإدانة السلطات الحكومية، هو اطلاق ايادي ميليشيات حزبية لاعتقال الشباب المتظاهر وتعذيبهم والإخفاء القسري لبعضهم، ولجوء حراسات بعض الاحزاب الحاكمة الى اطلاق الرصاص العشوائي الحي على المواطنين وسقوط ضحايا واعتقال آخرين...
كل ذلك فشل في اسكات اصوات المنتفضين وكشف وجه السلطة الكالح اكثر امام المواطنين ودفع بأعداد متزايدة منهم الى ساحات التظاهر والاعتصام والإصرار على نيل حقوقهم.
وتكون السلطات الحاكمة بذلك قد دشنت، بامتياز، انحداراً قوياً نحو ممارسات دكتاتورية غاشمة، كان من المفترض ان يكون العراق قد تجاوزها.
وقامت السلطة بموازاة اسلوب القمع البوليسي باعتماد اسلوب التغرير بالمواطن وخداع الجماهير بإغداق الوعود السخية التي لا تمس بقاعدة الفساد ومافياته وغير القابلة للتنفيذ بسبب غياب الغطاء القانوني او المالي او شروط البنك الدولي المانعة، وكذلك تأجيل موعد انتظام مجلس النواب الجديد الذي يفترض به تشريع القوانين المناسبة لوضع الكثير من القرارات الحكومية موضع التنفيذ، بسبب المماطلة في اعلان النتائج النهائية للانتخابات بدعوى الفرز والعد اليدوي بعد اتهامات لأحزاب السلطة بتزوير الاصوات، وتبعاً لذلك، تأخر تشكيل حكومة جديدة بدل حكومة تصريف الاعمال، تكون قادرة على البت بالأمور شرعياً، ناهيك عن غياب الارادة السياسية الحقة، مما أثار تساؤلات ليست في صالح اطراف الحكم، عن سبب حجب الحلول كل هذه السنوات مادامت كانت في متناول اليد وقابلة للتنفيذ كل هذه الفترة؟
ولأن احزاب السلطة وقياداتها ايقنت بأن حلحلة الامور وتعدي ازمتها الخانقة بالشكل الذي تتمناه قد مضى اوانه امام اصرار شعبي عام على اسقاطها باعتبارها سبب الفساد وموضوعه... لجأت الى محاولات الالتفاف على التظاهرات. فقد شرعت باستغلال بعض نواقص التحركات الاحتجاجية المتسمة بالعفوية لوأد الحركة بالتقليل من زخمها اولاً ثم باحتواء بعض اطرافها وتشتيت قواها وبعثرة جهودها، خصوصاً مع عدم تبلور قيادة ميدانية للتحرك، وغياب برنامج عمل وتنسيق موحد بين اطرافها مما يسهل التعامل معها كشراذم متفرقة.
وهذا ما فعلته السلطة ممثلة برئيس الوزراء حيدر العبادي باعتباره محامي القوى المتحاصصة امام غريمهم الشعب، فقام باستدعاء شيوخ عشائر من المقربين لأحزابهم في محافظات البلاد مع مجموعة مختارة، على المرام، من المتظاهرين للمساومة معهم على حصص كل محافظة على حدة وبشكل منفصل وكأن مشاكل مواطني هذه المحافظات ليست واحدة ومتشابهة. وبذلك فأنهم يسعون لتحقيق اهدافاً اساسية بالنسبة لهم وهو تفريغ الاحتجاجات من طابعها الوطني العام المتمثل بوحدة المعاناة والمطالب ووحدة وواحدية مسببي مآسي المواطنين.
الهدف الأبعد الذي يسعون اليه هو ابقاء هذه الاحتجاجات تدور في اطار المطالبة بالحاجات المطلبية اليومية دون تحولها الى مطالبة حقيقية بتغيير بنية النظام.
ولم يعدم اساطين السلطة من تجربة اساليب اخرى لخداع الجماهير، بأتباع، مثلاً، اسلوب الاعتذار العاطفي الفارغ وإعلان التأييد لمطالب المواطنين دون التخلي عن امتيازاتهم وسلطاتهم ومساعي تخليد تحاصصهم الذي على اساسه جلبوا كل هذا الدمار للبلاد وللمواطنين.
وغير بعيد عن نفس هذا الاسلوب باستدرار عطف المواطن وسذاجته، طرح مسؤولو محافظة البصرة الذين يتهمهم المواطنون بالفساد وسرقة المال العام، مطلب تحويل محافظة البصرة الى اقليم على اعتبارها البقرة الحلوب التي تدر على العراقيين بخيراتها من ايرادات نفطية وواردات الموانيء والمنافذ الحدودية التي لم ينتفع بها الشعب العراقي عموماً واهالي البصرة خصوصاً منها، مع الابقاء على الطاقم المحاصصي الحزبي الحاكم لقوى الاسلام السياسي على خوانقها.
وكأن مشكلة محافظة البصرة ادارية بحتة وليست مشكلة طغمة فاسدة فاشلة.
وأحدث ما تفتقت عنه عقلية مخططو تكتيكات الاحزاب الاسلامية الحاكمة والمتحاصصة معها من محاولات لإفشال الاحتجاجات الشعبية، هو ركوب الموجة واعلان تأييدها لخطبة الجمعة الاخيرة لممثلي المرجعية الدينية الداعية الى الامتثال الى الارادة الشعبية في مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين... ثم دعوتهم لتظاهرة عامة ترحيباً بتلك الخطبة في استهزاء وقح من رأي المرجعية وشخص السيد علي السيستاني ومن الارادة الشعبية في مكافحة المحاصصة الطائفية – العرقية، اس الفساد.
انهم في دعوتهم المرآئية للتظاهر تأييداً لموقف المرجعية الدينية يهدفون، في حقيقة الامر، الى كسر التظاهرات الشعبية بعد ان فشلوا في تشويهها، وحرفها عن مسارها السلمي بعد دسهم لأزلامهم للاعتداء على القوى الامنية والمؤسسات الحكومية وتلبيس التهمة للمتظاهرين السلميين. او رفع شعارات عدمية تنسف العملية الديمقراطية كاملة.
الهتاف الاول الذي اطلقه متظاهرو 2010 ثم شباط 2011 في ساحات التحرير في ارجاء البلاد وبعدهم متظاهرو 2015 تحول في تموز 2018 الى صرخة غضب مدوية ارعبت طغمة الفساد التي تتخبط بأجراءات عقيمة، لأنقاذ نفسها، صادرة عن حكومة عنينة لم تقدم شيئاً للعراقيين لأكثر من عقد ونصف من السنين فكيف بها ستحل مشاكلهم بقرارات ترقيعية هزيلة، في فترة وجيزة من عمرها الآفل؟