لقد عاشت القوى اليسارية والديمقراطية أزمة تاريخية سياسية واجتماعية جعلت هذه القوى عاجزة على لعب دور حقيقي في قيادة الجماهير في الفضاء السياسي والاجتماعي العراقي، ويعود ذلك الى حزمة من الاسباب الموضوعية والذاتية ويقف في مقدمة تلك الاسباب، طبيعة الانظمة السياسية التي تعاقبت على حكم الدولة العراقية وهي أنظمة استبدادية استخدمت أفظع اساليب القهر والتدمير الاجتماعي والاذلال والتهميش والاقصاء السياسي ضد القوى الديمقراطية واليسارية، مما ادى الى انعدام المؤسسات السياسية والقانونية، كما ان الدساتير العراقية معطلة منذ ولادة الدولة العراقية عام 1921.
ان استخدام الانظمة السلطوية بكل مظاهر البطش والتنكيل الى جانب سياسة الارهاب والتجهيل أدى الى توسيع قاعدة التخلف والجهل والبطالة والحرمان وأبعاد الجماهير عن المساهمة في القضايا الاستراتيجية وفي البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وان الغياب العملي للطبقة الوسطى عن ممارسة الفعل السياسي والاجتماعي بحكم التطور اللا طبيعي للاقتصاد العراقي جعلها غير مستعدة او بالأحرى غير قادرة على ان تلعب دورا حاسما في الحياة السياسية انعكس ذلك كله وبقوة على المسار الوطني والتاريخي للقوى والاحزاب الديمقراطية واليسارية سواء في رؤيتها وتصوراتها البرامجية أو في طبيعة انظمتها وحتى على المستويات النضالية مما جعلها غير قادرة على انجاز مهامها واهدافها الوطنية بالشكل المطلوب، وان انعدام وجود منظمات المجتمع المدني وان وجدت فإنها تتميز بضعفها وعدم قدرتها على ان تلعب دوراً ملموساً لأن الاتحادات والنقابات تحت سيطرة الدولة لا سيما في حقبة دولة البعث الاستبدادية.
ان الأزمة التي عانت منها القوى اليسارية في العراق هي جزء من أزمة مجتمعية عامة عانت منها شعوب المنطقة العربية بحكم تشابه الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وان أزمة الوعي الديمقراطي هي جزء من أزمة التخلف المزمن في معظم قطاعات الدولة، هذه عوامل حقيقية تضع القوى اليسارية امام مسؤولياتها الوطنية والتاريخية من اجل التحرك الجاد لإيجاد صيغة عمل وطنية موحدة وانتاج مشتركات جامعة، وعدم اضاعة الفرصة لأن الوضع السياسي العام مؤات لنشر الوعي في الوسط الجماهيري وتوضيح ما اختلط على المجتمع من مفاهيم وتصورات هي بالضد من المصلحة الوطنية العامة، وان الضرورات التاريخية تستدعي القوى السياسية للنضال المتواصل والخلاق من أجل بناء دولة مدنية مؤسساتية بعيداً عن نهج المحاصصة الطائفية والاثنية والتي جلبت الفقر والحرمان للبلاد والعباد، دولة مدنية يكون فيها القانون وليس الطائفة مرجعها، وهذا لا يتحقق الا ببذل الجهود الفكرية والنضالية وبدون انقطاع من اجل انتاج بيئة حاضنة للديمقراطية على مستوى الدولة والمجتمع.

عرض مقالات: