في تشرين الأول من عام 2012، نشرتُ دراسة حول مشكلة المياه العراقية اسميتها "عراق أخضر... أم ترابي"، اقترحتُ بها بعض الحلول ومنها:

"الدخول في مناقشات سريعة مع دول الجوار وتثبيت الحق العراقي كمصب مائي.

 والاستعانة بالأمم المتحدة والمؤسسات الدولية القضائية لتثبيت حصصنا المائية.

والعراق سوق كبيرة لمنتجات دول الجوار "فالمياه مقابل السوق" مقولة لا بأس بها."

وألان وبعد أكثر من 13 عاما لم يتحقق شيء.

إن أزمة المياه في العراق لم تعد مجرد قضية خدمية أو موسمية؛ إنها اليوم واحدة من أخطر أزمات الأمن القومي. فالعراق، بلد الرافدين، يواجه ضغوطًا مائية غير مسبوقة من دول الجوار، وفي مقدمتها تركيا وإيران، اللتين أعادتا رسم مجاري الأنهار والروافد بطريقة أضعفت قدرة العراق على تأمين حاجاته الأساسية من المياه.

فمن جهة، تواصل تركيا تنفيذ مشاريعها العملاقة ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول وعلى رأسها سدّا أتاتورك وإليسو، اللذان خفّضا تدفقات دجلة والفرات بنسب كبيرة. هذا التراجع انعكس على الزراعة، والمياه الجوفية، ومعدلات التصحر، ورفع من اعتماد العراق على الاستيراد بدلاً من الإنتاج المحلي. تركيا لا تخفي نواياها. تتعامل مع المياه كـسلاح نفوذ، وتعتبر الأنهار “موارد عابرة للحدود” لا “موارد مشتركة”. ومع ذلك، ما زال العراق يفاوضها بلغة المجاملات، بينما تتصرف أنقرة كقوة إقليمية تفرض شروطها بلا تردد.

أما من الشرق، فإيران تستخدم أسلوبًا مختلفًا لكنه لا يقل ضراوة. فخلال العقدين الأخيرين تم تحويل أو قطع أكثر من 35 رافدًا يدخل العراق، من الوند إلى سيروان إلى ديالى، دون إعلان واضح أو التزام باتفاقات سابقة. وما يحدث ليس مجرد تحويلات هندسية، بل ضغط سياسي مقنّع يتقاطع مع نفوذها الداخلي ويجعل التعامل معها أكثر تعقيدًا من التعامل مع تركيا.

وبين هذين الفاعلين، وبالإضافة الى العوامل الداخلية المضطربة، يجد العراق نفسه الحلقة الأضعف في معادلة مائية شديدة الخطورة، واليوم، يحتاج العراق الى خطوات عاجلة مثل:

  - اعتبار المياه ملفًا سياديًا لا يقبل المساومة

  - توحيد الخطاب التفاوضي مع تركيا وإيران بعيدًا عن التجاذبات الداخلية

- استخدام أوراق الضغط الاقتصادية السوق، الطاقة، التعاون الحدودي ضمن إطار مدروس

  - تعزيز الخزن المائي والسدود داخل العراق لتقليل الهدر

  - إطلاق حملة وطنية لإدارة المياه تتضمن تغيير أنماط الري والزراعة

إن العراق ليس ضحية سياسات جيرانه فحسب، بل ضحية غياب إدارة فعّالة لهذا الملف داخل حدوده. وما لم يُتعامل مع المياه كملف سيادي لا يحتمل التأجيل، فإن مستقبل العراق الزراعي، وربما الاجتماعي، سيواجه تهديدًا وجوديًا.

المطلوب اليوم ليس مجرد التفاوض مع تركيا وإيران، بل بناء موقف وطني صلب يستخدم أوراق الضغط المتاحة، وفي مقدمتها: السوق العراقية، ملف الطاقة، والتعاون الحدودي. كما يحتاج العراق إلى استثمارات جدية في السدود والخزن المائي، وتغيير نمط الري والزراعة، وإصلاح الهدر الداخلي الذي يبتلع المياه قبل أن تصل إلى الحقول.

إن أزمة المياه هي معركة بقاء، وعلى العراق أن يخوضها كدولة تدافع عن سيادتها، لا كطرف يتلقى نتائج سياسات الآخرين. فكيف يمكن لدولة بهذا الضعف المؤسسي أن تحمي حقوقها المائية؟

وكيف يمكن للعراق أن يفرض معادلة جديدة بينما أوراق قوته، السوق، الطاقة، الجغرافيا، لا تزال خارج الاستخدام؟

إن استمرار هذا الوضع يعني شيئًا واحدًا، إن المياه تتحول إلى أداة لابتزاز العراق، والعراق يتعامل معها كملف ثانوي.

إن الأمن المائي ليس شأنًا فنّيًا، بل قضية سيادة. وإذا لم يتوقف العراق عن إدارة أزمته بعقلية رد الفعل، فسوف يستيقظ يومًا ليجد أن الرافدين لم يعودا نهرين… بل ذكرى تاريخية.

3 كانون الأول 225