
يتواصل الجدل الثقافي والجمالي بين تيارين اجتماعيين، أحدهما ماضوي والآخر حداثوي، حول أهمية الموسيقى والغناء وموقعهما بين الحِلّ والتحريم. هذا الجدل يعكس ارتداداً في الوعي المجتمعي، ناجماً عن تجاوز دعاة التحريم لمعنى حضاري وجمالي راسخ، مفاده أنّ الموسيقى والغناء جزءٌ أصيل من هوية المجتمع وثقافته. فمعيار الجمال ليس ثابتاً أو نهائياً؛ الثابت الوحيد هو المتذوّق للجمال ودرجة إحساسه به. فهناك من يرى جمال الشرق المتخم بروحه وتنوعه أعمقَ وأجمل من جمال الغرب وتقنياته الحديثة. ولا وجود لثوابت مطلقة في الذائقة الجمالية، فالجمال يتبدل بتغير البيئة والمعارف، وتبقى قيمته قائمة على علاقة المتلقي به، وعلى وعيه الجمالي وما يحمله من رهافة إحساس. الثقافة أيضاً وجهٌ من وجوه الجمال.
فهذه الشجرة، مثلاً، يراها الإنسان العادي مظلّة تقي سيارته من شمس الصيف الحارقة؛ وهي نظرة نفعية محضة. لكن الفنان التشكيلي يراها تحدياً جمالياً في اللون والضوء، يحاول محاكاته وإعادة إنتاجه. أما الشاعر فيتخذ منها مسكناً لمخياله ومحطة هروب معلّقة فوق الأرض، فيما يراها الخبير الزراعي منظومة حياة كاملة: تُنتج الأوكسجين، وتُرطب الهواء، وتُثمر. وللشجرة مظاهر عديدة، تتبدل بتبدل الفصول، وتتغير تأثيراتها من موسم لآخر، دون أن تعير اهتماماً لنظرات الآخرين؛ فهذه طبيعتها.
وترتقي قيمة الشجرة الجمالية بقدر من ينظر إليها، مثلما ترتقي قيمة الجمال الأنثوي الذي خلقته الطبيعة بتنوع يفوق تنوع الأشجار نفسها.
الثقافة الجمالية تُكتسب بالمراس وتدريب الحواس، وأعتبر ــ من خلال تجربتي ــ أن الموسيقى هي القاعدة الأولى لهذا التدريب، بخلاف ما ذهب إليه كبار الفلاسفة، وفي مقدمتهم هيغل في موسوعته الجمالية، حين جعلوا الرسم أسبق من الموسيقى لأن الإنسان القديم رسم قبل أن يعزف ويغني.
أمّا أنا فأرى أن الموسيقى والغناء ــ بكل طبقاتها ــ يشكّلان هوية المجتمع، تماماً كما تشكل اللغة جزءاً من هويته. ومن السهل أن تميّز الموسيقى الغربية الكلاسيكية من الموسيقى الشرقية والعربية، مثلما يسهل تمييز الموسيقى الأفريقية من موسيقى المتوسط الأوروبية، والهندية من الروسية. ذلك لأن الموسيقى تحمل معها بصمة البيئة والموروث، وتبثّ روح المكان في نغمها وإيقاعها.
على العكس من الفنون التشكيلية التي تخضع لمدارس فنية عالمية، تجعل لوحات الانطباعيين أو التكعيبيين أو السرياليين متشابهة مهما اختلفت أوطان رسّاميها.
الموسيقى تتفاعل مع المتلقي عبر موروثه البيئي، ولذلك يمكنك بسهولة أن تميز موسيقى الفرس عن الهنود والعرب والكرد.
فالإيقاع الأفريقي، على سبيل المثال، له بناؤه الخاص وأوزانه وسرعاته المختلفة عن الإيقاع الآسيوي، بينما تعتمد الموسيقى الغربية على قوة الإحساس، وكثافة التعبير اللوني، والبناء النغمي المتحرك الذي يعكس طبيعة الحياة هناك. ولهذا يستطيع المستمع المتخصص أن يميّز هوية الموسيقى وانتماءها دون عناء.







