لم يكتفِ الفائزون بجائزة نوبل لعام 2025 بدراسة "التدمير الخلّاق"،[1] بل أتمّوا مشروعًا امتدّ قرنًا كاملًا لتجفيف نقد ماركس المتفجّر من محتواه الثوري، وإعادة صياغة العنف النظامي باعتباره حتمية رياضية.

نماذج الفائزين تمثل الذروة الأيديولوجية لهذه العملية التعقيمية؛ إذ حوّلوا واقع العنف الطبقي المعيش إلى متغيّر داخل معادلة للنمو، حيث يصبح الألم الإنساني مجرّد أثر جانبي مؤسف لكنه ضروري لصحة المنظومة.

لطالما احتاجت الطبقة الحاكمة إلى حكايات مقنعة لتبرير الخراب الذي تخلّفه.  وجائزة نوبل للاقتصاد هذا العام، الممنوحة لجويل موكير، وفيليب أغيون، وبيتر هوويت Joel Mokyr, Philippe Aghion, and Peter Howitt عن عملهم في مجال "التدمير الخلّاق"، تقدّم أحدث وأرقى أسطورة في هذا السياق.  فمثلهم الأعلى يبدأ بمَثَل الهاتف الذي تطوّر إلى الهاتف الذكي: قصة نظيفة ومنطقية، حيث يقتضي التقدّم شيئًا من الفوضى، ويصبح المآل مبرّرًا للوسيلة.

ليست هذه مجرد مناظرة أكاديمية؛ إنها معركة حول كيفية إدراكنا لعنف النظام الرأسمالي.  فالتاريخ الفكري لـ "التدمير الخلّاق" هو تاريخ قذيفة ماركس وقد جُرِّدت من فتيلها، صُقلت، ثم وُضعت على رفّ اقتصاد البرجوازية كزينةٍ آمنة لا تُهدّد أحدًا.  أما الفائزون بجائزة نوبل لعام 2025 فهم ذروة هذا المشروع لا نقّاده؛ إذ ابتكروا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] التدمير الخلّاق creative destruction مصطلح صاغه عالم الاقتصاد النمساوي-الأمريكي جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter (1883-1950) في كتابه Capitalism, Socialism and Democracy (London: Unwin University Books, Twelfth impression, 1970. First published in the USA, 1942), pp 81-86.

 كمفهوم اقتصادي فإن التدمير الخلاق يصف الكيفية التي تؤدي بها الابتكارات إلى زعزعة البُنى الاقتصادية القديمة واستبدالها بأخرى جديدة، مما يدفع عجلة النمو لكنه يتسبب أيضًا في اضطرابات اجتماعية.  فالتكنولوجيا والمنتجات والنماذج الجديدة تُحدث ثورات في الصناعات، فتُغلق مؤسسات قديمة وتنهض أخرى جديدة.  وهو بهذا المعنى محرك للرأسمالية، إذ يضمن التجدد والتقدّم، لكنه يفرض ثمنًا باهظًا على العمال والمجتمعات؛ أي ان التدمير الخلاق له طبيعة مزدوجة: إبداع وازدهار من جهة، وهدم ومعاناة من جهة أخرى كفناء الصناعات القديمة، البطالة ... (المترجم)

 "جبر الاستغلال" algebra of exploitation، مستخدمين استنتاجات رياضية لإثبات أن وحشية النظام ليست مجرد كفاءة، بل ضرورة منطقية لا غنى عنها.

ماركس: التدمير الخلّاق كمرضٍ رأسمالي

لفهم حجم هذا السطو الأيديولوجي، لا بد أن نعود إلى القوة الخام غير الملوّثة في تحليل كارل ماركس الأصلي.  فبالنسبة لماركس، ما نسمّيه اليوم "التدمير الخلّاق" لم يكن سمةً لاقتصادٍ صحي، بل كان العلامة الأولى لاقتصادٍ مريضٍ بعمق.  لقد كان "قانون حركة رأس المال" law of motion of capital في أكثر أشكاله عنفًا وتناقضًا ذاتيًا.

كانت عبقرية ماركس في أنه لم يعتبر هذا مجرد صدمة خارجية، بل ضرورة داخلية ودورية يفرضها النظام نفسه.  ففي رأس المال، شرح كيف أن رأس المال، في سعيه للتوسع الذاتي، لا بد أن يُثوّر وسائل الإنتاج باستمرار.  لكن هذا النجاح يؤدي إلى الإفراط في التراكم وانخفاض معدل الربح.  فما هو المخرج الوحيد أمام النظام؟  ظهور الأزمة.

بين الحين والآخر، لا بد للرأسمالية أن تهدم أسسها ذاتها — "جزءًا عظيمًا من رأس المال" — عبر الأزمات و"التدمير القسري لقوى الإنتاج" كي تستعيد ربحيتها.  فالخلق مخصّص للقلة، أما التدمير فيُلقى على كاهل الكثرة.

هذا ليس استعارة، بل وصفٌ لنظامٍ في طور الانهيار. كتب ماركس في كتابه المخطط الأولي لنقد الاقتصاد السياسي Grundrisse عن "الانفجارات والكوارث والأزمات، وفناء جزءٍ كبيرٍ من رأس المال".  هذا "الفناء" هو انخفاض قيمة رأس المال — تُغلق المصانع، وتصدأ الآلات، وتُفلس الشركات، ويُلقى العمال في الشوارع.  هذا الانخفاض في القيمة هو "الدمار" الذي يُمهّد الطريق، مما يسمح لرأس المال المتبقي بإعادة الاستثمار بشكل مربح وبدء الدورة من جديد.  أما "الخلق" فهو إحياء الربحية على أنقاض استثمارات وسبل عيش الدورة السابقة.

بالنسبة لماركس، كان هذا "ظاهرة طبقية".  فالطبقة الرأسمالية، بوصفها كُلاً، هي التي تُدبّر هذه العملية، بينما تتحمّل الطبقة العاملة كلفتها الساحقة.  إن العنف هنا ليس عرضًا عابرًا، بل هو جوهري وأساسي.

شومبيتر والنوبليون: محو الطبقة والاحتفاء بالنظام

أجرى جوزيف شومبيتر عملية جراحية حاسمة على نظرية الأزمة عند ماركس: أزال منها "الصراع الطبقي".  وأعاد تسمية الرأسمالي ليصبح "رائد الأعمال" البطولي “Entrepreneur”، وحوّل الأزمة البنيوية إلى "عاصفة التدمير الخلّاق" الصحية.  انتقل التركيز من تناقضات النظام الداخلية إلى الدافع النفسي للمبتكرين الأفراد.  أما "حكم الإعدام على الزراعة القديمة" فلم يعد مأساة، بل شهادة على التقدّم.

لقد أخذ الحائزون على جائزة نوبل لعام 2025 إطار شومبيتر غير المسيس وترجموه إلى اللغة المُتاحة الأكثر عقمًا سياسيًا: الرياضيات.

مراوغة موكير الثقافوية: لقد حاز عمل جويل موكير التاريخي نصف الجائزة، لأنه حوّل بؤرة التحليل من الاقتصاد السياسي إلى "الثقافة".  ومن خلال زعمه أن "الانفتاح على التغيير" هو مفتاح النمو، فإنه يحمّل المجتمعات والعمال ضمنًا مسؤولية فشلهم في التكيّف مع الاضطرابات التي يفرضها رأس المال.  لم تعد المشكلة تكمن في قوة رأس المال على توجيه التغيير لمصلحته، بل في "تخلّف" الثقافة لدى من يقاومون اندثارهم.  إنها نظرية لـ "الإعداد الأيديولوجي" من أجل اضطراب دائم.

تقديس أغيون وهاويت للرياضيات: هذا هو جوهر الذريعة الأيديولوجية.  بنى أغيون وهاويت نماذج رياضية يكون فيها التدمير الخلاق محرك النمو الاقتصادي الكلي.  وتمثل "إنجازهما" العظيم في إثباتهما، استنتاجيًا، أن ما يُسبب "اضطرابًا هائلًا" على المستوى الجزئي micro-level (للعامل والمجتمع) هو أساس الاستقرار على المستوى الكلي macro-level (للنظام ككل).

هذه خدعة معرفية عميقة. فباعتمادهم "رؤية من العدم" للمجموعات الاقتصادية الكلية، فإنهم يجعلون "المعاناة الإنسانية المحددة تختفي في متغير إيجابي".  فالبطالة ليست كارثة شخصية بل هي معامل احتكاك ضروري.  وانهيار صاحب العمل الرئيسي في مدينة ما ليس كارثة اجتماعية بل هو إعادة توزيع كفؤة للموارد في خوارزمية النموذج.

إن استنتاجاتهم ليست خاطئة بالمعنى الضيّق والشكلي؛ لكنها "بذيئة سياسيًا".  فهي تقدّم تبريرًا يبدو علميًا لسبب وجوب عدم التدخّل.  إن تطبيق حماية قوية للعمال، أو توفير إعانات بطالة متينة، أو اعتماد الملكية العامة، يُعتبر في نظرهم "تشويهًا" للآلة الجميلة التي تزعم أنها تضبط نفسها ذاتيًا.  إن رياضياتهم تخدم مصلحة طبقية واضحة: إن حساباتهم تخدم مصلحة طبقية واضحة: فهي تبرر السلبية في مواجهة الاستغلال من خلال تأطيره باعتباره ضرورة منطقية.

استعادة الأزمة

إن رحلة "التدمير الخلّاق" من ماركس إلى منصة نوبل هي درسٌ نموذجي في الاستحواذ الأيديولوجي.  فهي تُظهر كيف تُفرغ الطبقة الحاكمة أكثر الانتقادات قوةً من مضمونها، من خلال استيعابها وإعادة تعريفها.

لقد أعطانا ماركس نظرية "سياسية واقتصادية" للأزمة البنيوية، متجذّرة في الصراع الطبقي.

وأعطانا شومبيتر نظرية "سوسيولوجية" للتغيير الديناميكي، متجذّرة في بطولة الفرد.

أما الفائزون بجائزة نوبل فقد قدّموا نظرية "تكنوقراطية" للنمو الكفء، متجذّرة في حتمية رياضية.

تُشكّل نماذج الحائزين على جائزة نوبل حاجزًا واقيًا أمام العمل السياسي.  فهي تُخبرنا أن الألم ليس غايةً فحسب، بل هو نتيجةٌ استنتاجيةٌ منطقية.  لكن الرياضيات لا تستطيع حلَّ تناقضٍ سياسي.  ويبقى الصراع الجوهري الذي حدده ماركس — بين الطبيعة الاجتماعية للإنتاج والاستيلاء الخاص على مكاسبه — قائمًا.

مهمتنا هي رفض هذا الجبر غير الدموي واستعادة جوهر الأزمة السياسي.  إن التقدم الحقيقي لا يكمن في نظام يتطلب تدميرًا دوريًا، بل في بناء نظام تُصبح فيه ثمار الخلق مملوكةً جماعيًا، ويُترك مفهوم "التدمير" كضرورة اقتصادية في كتب التاريخ حيث ينتمي.■


* ديباشيس تشاكربارتي Debashis Chakrabarti هو باحث دولي في الإعلام وعالم اجتماع، يشغل حاليًا منصب رئيس التحرير للمجلة الدولية للسياسة والإعلام.  يمتلك خبرة واسعة تمتد على مدى 35 عامًا، تولّى خلالها مناصب أكاديمية بارزة، من بينها أستاذ وعميد في جامعة آسام – سيلشار Assam University, Silchar.  وقبل دخوله المجال الأكاديمي، برز تشاكربارتي كصحفي في صحيفة ذا إنديان إكسبرس.  وقد أجرى أبحاثًا مؤثرة وشارك في التدريس في جامعات مرموقة بالمملكة المتحدة والشرق الأوسط وأفريقيا، مما يعكس التزامه بتطوير الدراسات الإعلامية وتعزيز الحوار العالمي.

نشر النص الإنجليزي في مجلة Eurasia Review تحت عنوان:

“The Algebra of Exploitation: How the Nobel Prize mathematically sanitized creative destruction – OpEd”

ويمكن قراءته بالنقر على هذا الرابط:

 https://2u.pw/wTyfqa