اكرر التعازي لرفيقة دربه الرفيقة بخشان زنكنة وابنته بهار وباقي افراد عائلته ورفاق دربه في الحزب الشيوعي العراقي.

قضيت مع ابو فاروق سنوات طويلة، وكانت البداية في سجن بعقوبة في اواخر عام 1956 وكنا محجوزين في غرفة صغيرة لاتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص، ولدي معه ذكريات كثيرة ومتنوعة وتعرفون مقدار شجاعته في العمل السري وصلابته في المواقف الصعبة، ولا اود تكرار ما تعرفونه عن خصاله وتاريخه النضالي، ولكني اود استذكاره معكم بمناسبة اربعينيته بحادثة هروبنا المشترك من سجن (خلف السدة) في بغداد عام 1965.

سجن خلف السدة كان بالأساس معسكر للجيش وهو غير محاط بالأسوار بل بالأسلاك الشائكة مما يتيح لنا مشاهدة حركة المرور في الشارع عند تجولنا في الساحة في الأوقات المسموح لنا بها. كان السجن بحراسة شرطة القوة السيارة التي يتم تبديلها كل ثلاثة أشهر، ولاحظنا انه بالإمكان لأي معتقل يرتدي ملابس الشرطة ويحمل بضع بطانيات ملفوفة على كتفه وان يخرج من المعتقل اثناء تبديل القوة، دون سؤال وجواب.

قررت اللجنة الحزبية القيادية استخدام هذه الطريقة، وعندما توفرت مستلزمات ذلك كان الأوان قد فات بعد ان هرب أحد السجناء من جماعة سليم الفخري بنفس الطريقة، مما استدعى من ادارة السجن لاتخاذ جملة من الاجراءات ادت الى انعدام امكانية استخدام هذه الطريقة.

وتداولنا حول خطة هروب أخرى واستبعدناها لأنها لا تتسع لأكثر من شخصين وعندما علمنا بأن السلطات تنوي نقلنا إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي، قررت اللجنة الحزبية وضع الخطة موضع التنفيذ وتقرر تهريب إثنين وهما عمر علي الشيخ وانا، وتقرر تنفيذها في أحد الأيام المواجهة عند زيارة اهالي المعتقلين، وذلك بالهروب من أحد الشبابيك مع بعض التغيير في مظهرنا ومن ثم نسعى إلى الاختلاط بالمواجهين الذين يتجمعون بعد انتهاء المواجهة لفترة قصيرة خارج القاعات، حتى يجري تعداد المعتقلين في جميع القاعات ويأخذ الحراس وطاقم إدارة السجن مواقعهم في نقاط التفتيش العديدة التي يمر بها المواجهون عند خروجهم.

كان علينا انجاز اربعة نقاط مهمة في الخطة وبشكل سري لا يثير انتباه الحرس والآخرين من المعتقلين في القاووش الذي ضم 60 معتقل اغلبهم من الشيوعيين، ومجموعة من جماعة سليم الفخري وبضعة عناصر مشكوك في امرها:

- اولا: قص أحد القضبان الحديدية في الشباك الأخير من القاووش للتسلل من الفتحة، وتمت العملية بنجاح، بعد توفير منشار من قبل أحد الحراس، وتم ذلك بعد التغطية بضجيج مفتعل اثناء حملة تنظيف عام في القاعة للتغطية على عملية القص، وكنا انا وابو فاروق نقف عند الشباك خارج القاعة لمراقبةالحارس الموجود على سطح البناية المقابلة، وجرى تغطية القضيب المقصوص بربطه بليف الحمام.

- ثانيا: توفير ما يشبه دميتين توضع في اماكن نومنا عند التعداد بعد هروبنا ولم يكن لنا مكان لصنع الدميتين، وبمناسبة 31 آذار أنشأنا مسرحاً وقام ابو فاروق بصنع الدميتين في الكواليس وقام باحشائها بملابس قديمة، واصبحت جاهزة للاستعمال بعد الهروب.

- ثالثا: ترتيب امكانية طبع اختام السجن التي تطبع على ايدي العوائل التي تزور ابنائها اثناء المواجهة، وكان ابو فاروق ينسق مع قيادة الحزب حيث وفرت لنا في يوم المواجهة ورقتين نطبع بها الاختام بعد تبليل رسغ اليد.

- رابعا: تحضير هيئتنا الخارجية عند الهروب، اختار ابو فاروق ان يتقمص هيئة حمّال وهيأ دشداشة مرقعة برقعة كبيرة من الخلف وجاكيب قديم و(جراوية) على غرار الجمداني الكردي، واخترت انا هيئة طالب جامعي.

وفي يوم المواجهة وكان يوم 1 نيسان 1966 وصادف مناسبة عيد الأضحى وحشد الحزب أكبر عدد من المواجهين، وكانت أكبر مواجهة يشهدها هذا السجن. ونجحت خطتنا في الهروب والعودة الى احضان الحزب والشعب لمواصلة النضال.

كان مهندس هذا الهروب هو الرفيق ابو فاروق ولم تبخل قيادة الحزب بأية مساعدة ممكنة.

لقد عرفنا أبو فاروق مناضلاً صلباً منذ أيام وثبة كانون الثاني 1948 عندما كان طالباً في الجامعة، وعرفناه جميعاً مواصلته للعمل الحزبي بظروفه الصعبة والمختلفة، سواء في العمل السري أو في تعرضه للاعتقال او في فترة الكفاح المسلح في جبال كردستان.

لقد كان مناضلاً يتسم بصفات الشيوعي المخلص في كل الظروف التي مر بها الحزب، وترك للأجيال اللاحقة تجربة ثرية، تمنحهم دروساً عميقة المعنى لمواصلة النضال من اجل وطن حر وشعب سعيد.

لتنعم رفيقي العزيز ابو فاروق بهدوء الرقدة الأخيرة بعد حياة فاعلة ومؤثرة، ولنا جميعاً الصبر والسلوان.

تشرين الثاني 2025