
على الرغم من انشغالي الدائم وقلة متابعتي للتفاصيل اليومية في الشأن السياسي، كثيرًا ما أجد في داخلي قدرة على التحليل، وحدسًا يميل للصواب في توقّع ما تنتهي إليه الأحداث. غير أنّ نتائج الانتخابات الأخيرة فاجأتني بصدمة تجاوزت التوقعات؛ لحظة امتزج فيها الغضب بالخيبة حتى بدا الأمر كأن بركانًا يضجّ في صدري، موجَّهًا نحو الناخب الذي باع صوته، والمنتخَب الذي اشترى موقعه. لكنّ المفارقة أنّ هذا الغضب لم يدم طويلًا. فما هي إلا أيام قليلة حتى بدأ شعور مختلف يزحف إلى داخلي؛ شعور غريب لا يمتّ لخيبة البدايات بصلة، بل يحمل شيئًا من نشوة النصر… نعم، النصر، رغم كل الهزائم الظاهرة. تساءلت يومها: كيف يمكن للشرف والعهر السياسي أن يجتمعا تحت قبة واحدة؟ وكيف يمكن لمن يحملون القيم والمبادئ أن يتنفسوا الهواء ذاته مع من جعلوا الفساد منهجًا وسبيلاً؟ أيّ جدوى كانت ستتحقق من وجود الشرفاء وسط منظومة سياسية أنهكتها الصفقات وشراء الذمم، حتى باتت عاجزة عن سماع صوت الحق مهما علا؟ عندها أدركت حقيقة مرة لكنها منطقية: ربما كانت خسارتهم الظاهرة هي نجاتهم الحقيقية. فالبرلمان الذي لم يحظَ أعضاء كثر فيه باحترام أغلب العراقيين، والذي تحوّل إلى ساحة تضج بالفساد والثراء الفاحش، لم يكن مكانًا صالحًا لأولئك الذين دافعوا عن المستضعفين وضحّوا من أجل عراقٍ كريم. وجودهم هناك، وهم قلّة محاصَرة، لم يكن ليمنحهم قدرة على التأثير، بل ربما كان سيشوّه صورتهم ويُفقدهم نقاءهم السياسي والأخلاقي، مهما حاولوا الصمود. إنّ حصول الفاسدين على بضعة مقاعد، في مشهد انتخابي تُشترى فيه الأصوات علنًا، ليس هزيمة للشرفاء بقدر ما هو شهادة دامغة على انهيار المنظومة القيمية. ولو أنّ المدافعين الحقيقيين عن النزاهة نالوا عددًا أكبر من المقاعد، لكان ذلك سيحملهم إلى بيئة خانقة، لا تتيح لهم تغييرًا ولا تمنحهم أثرًا، بل تجرّهم إلى وحل السجالات الذي يلتهم السمعة والجهد والتاريخ. وهكذا بدا لي أنّ ما حدث كان أشبه بضربة حظ، تدخل فيها القدر ليصون سمعة من أحبّوا العراق وعملوا لأجل كرامته، ويُجنّبهم الانغماس في برلمان فقد ثقة جمهوره قبل أن يفقد شرعيته الأخلاقية. لا أسف إذن على من لا يستحق الأسف. فالخسارة التي تحفظ الشرف… أكرم ألف مرة من انتصار ملوّث بمالٍ سياسيّ عابر وقِيمٍ منهارة.







