أصدر فرع الحزب الشيوعي السوداني بمدينة عطبرة - المدينة العمالية التي ارتبط بها تاريخ الحزب منذ تأسيسه في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، تصريحا صحفيا أعلن فيه التقاء وفد من قيادته بوزير البنية التحتية بولاية نهر النيل التي تتبع لها المدينة وقدم له مشروعا لحل مشكلة العطش عن طريق استخدام الطاقة الشمسية لتشغيل المحطتين الرئيسيتين باستخدام الطاقة الشمسية. وذلك وفق رؤية متكاملة أشرف على إعدادها فريق فني من مهندسي الحزب المختصين. واضاف التصريح بأن الوزير استقبل وفد الحزب بحفاوة، كما رحب بالفكرة معلنا عن رغبته في التعاون لتنفيذها، في وقت التزم فيه الحزب بالمساهمة في تمويل المشروع.
فور صدور هذا التصريح في صفحة الحزب في الفيسبوك تصدر (الترند) وغطى على أخبار المعارك التي تدور في غرب البلاد على ضراوتها، بما فيها حصار مدينة الفاشر التي أكل أهلها (الامباز: علف الحيوانات) ومعركة أم صميمة على أطراف مدينة الأبيض، إحدى أكبر مدن غرب السودان التي تعرضت فيها مليشيات "درع السودان" التي تقاتل إلى جانب الجيش لهزيمة كبرى افقدتها مئات المقاتلين.
وانقسم المراقبون بين مؤيد ومعارض للخطوة التي قام بها الحزب. فقد اعتبرها البعض، خاصة مناصرو الحزب أنها تمثل دليلا على ارتباط الحزب بقضايا الجماهير وتجيء منسجمة مع استراتيجية الحزب في العمل العام الذي ظل يزاوج فيه بين الصراع المطلبي والخدمي والصراع السياسي. وهي استراتيجية استطاع الحزب من خلال تطبيقها بإبداع أن يبني منظمات الجماهير الفئوية التي أطاحت بكل الانظمة الديكتاتورية منذ استقلال البلاد في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي.
في حين يرى آخرون من المخالفين للحزب، خاصة مناصرو تحالف "صمود"، الذي يترأسه رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، ان الخطوة تعد اعترافا من الحزب بحكومة بورتسودان ودعما منه لاستمرار الحرب.
لكن "صمود"، التي تعيب على الشيوعيين العمل على تقديم خدمة للجماهير في أوضاع أعلن الحزب مرارا أنه يرفضها ويعمل على تغييرها عبر المقاومة السلمية مع الجماهير وبهم، نجدها تكتفي بالنشاط الدبلوماسي من خلال مقابلات متكررة مع الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوربي والاتحاد الأفريقي، والضغوط التي من المتوقع ان يمارسها المجتمع الدولي على طرفي الحرب من اجل توصيل المساعدات الإنسانية للمتضررين ووقف القتال بفرض العقوبات من قبل الخزانة الأمريكية على قيادات في القوتين. وهي جهود لم تثمر حتى الآن وتصطدم بالفيتو الروسي وصراعات المحاور التي تدعم طرفي الحرب، والتي افشلت اجتماع القمة الرباعية مؤخرا في العاصمة الأمريكية واشنطن إثر خلاف بين مصر والامارات حول مشاركة الجيش السوداني في المفاوضات. علما بأن هذه القمة لم تتم دعوة اي طرف سوداني اليها، بما في ذلك تحالف "صمود" الذي يؤيد التدخل الدولي ويدعو له بشدة.
ووقوف أنصار "صمود" ضد الخطوة التي قام بها الحزب الشيوعي تعود إلى علمهم المسبق بأن الحزب يفتتح طريقا آخر لوقف الحرب وإسقاط النظام يستند إلى خبرة الجماهير وتجارب السودان السابقة في إسقاط الانظمة الشمولية والتي كللت جميعها بالنجاح. كما ان الخطوة في ذات الوقت تقطع الطريق على التدخل الدولي الذي تهب رياحه في أشرعة تحالف "صمود" التي تدعمها منظمات تتبع للأحزاب الحاكمة في دول "الترويكا، كما سبق ان اعترفت بذلك الناطقة الرسمية لتحالف "تقدم" قبل ان ينقسم إلى "تأسيس" و"صمود" وفي لقاء مشهور بقناة الجزيرة.
لذلك تصدر موقف الحزب الشيوعي الأخير اهتمامات الرأي العام السوداني وسط ضجيج المدافع وقصف الطيران، في وقت تكاد تقترب فيه معركة كسر العظم من نهايتها التي يفضلها الوسطاء الدوليون حتى يمكنهم فرض التفاوض على حل الدولتين. ويطمع الوسطاء ان يجد هذا الحل دعما شعبيا يحرج الجيش السوداني بالتأكيد على ان الاجندة الدولية التي يصفها مناصروه بأنها تدخل دولي في الشأن الداخلي السوداني هي في الحقيقة تمثل مطلبا شعبيا لأهل السودان.
وهم يعولون على تحالف "صمود" في القيام بهذه المهمة بعد ان ظنوا انه يمثل أكبر تحالف مدني سياسي في السودان. لكن الحزب الشيوعي وباحترافية عالية يعمل على إفشال هذه الخطوة بابتداء حراك داخلي يعول فيه على صف الجماهير وتنظيمها حول مطالبها الحيوية، مثل مياه الشرب ومكافحة الامراض المستعصية. وهذا ميدان يجيد الشيوعيون السودانيون اللعب فيه بمهارة ولهم فيه خبرات متراكمة عبر عقود من الزمان.
وقد ظل الحزب الشيوعي يطرح شعار (حيث الجماهير .... لها نعلم ومنها نتعلم). وبسبب استلهام وتطبيق هذا الشعار بإبداع فإن كثير من الافكار التي طبقها الحزب ولاقت نجاحا كبيرا كان قد التقطها ومن وسط الجماهير. والفكرة الأخيرة، ونعني بها استخدام الطاقة الشمسية في تشغيل محطات المياه، أصلا قد سبق ان أطلقتها الجماهير في ولاية نهر النيل وفي الجزيرة واستخدمتها عبر لجان القرى والأخبار بطريقة واسعة ساعدت كثيرا في ايجاد حلول لمشكلة المياه للشرب والزراعة للانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي بسبب تعرض محطات التوليد إلى قصف الطيران المسير من قبل قوات الدعم، كما حدث لمحطات مروي وبورتسودان وعطبرة. بل ان هناك محطات تم تدميرها تدميرا كاملا. هذا إلى جانب تكلفة التوليد الحراري المرتفعة.
وقد رأى فرع الحزب في عطبرة الاستفادة من هذه التجربة الشعبية في حل مشكلة المياه دون انتظار المساعدات الإنسانية إثر كلمة ينطق بها المبعوث الأمريكي أو فكرة توافيه عفو الخاطر. كما انها قد تتأخر على أحسن المفروض ما لم تجد الخارجية الأمريكية طريقة مثلى لتسوية الخلاف، ليس بين طرفي الحرب في السودان هذه المرة ولكن بين الأمارات ومصر.