دعم مدريد لفلسطين يفسره الالتزام الطويل الأمد للقوى التي تشكل الائتلاف الحاكم , لكنه ايضا يعتمد على تقليد تاريخي فريد ، حيث شهدنا على سبيل المثال ،تيارات فاشية تدعو الى تدريس اللغة العربية في المدارس .
منذ بداية الحرب المدمرة التي شنتها اسرائيل على غزة ، ردا على هجمات حماس في 7 اكتوبر 2023، دافعت مدريد عن الفلسطينيين وأثارت غضب رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو . اسبانيا فرضت نفسها كلاعب دبلوماسي فريد من نوعه في أوربا ، إن التحالف الذي يدير البلاد يبرز في المشهد الاوربي ، في السلطة التنفيذية ، يعتمد رئيس الحكومة بيدرو سانشيز من حزب العمال الاشتراكي الاسباني ( PSOE) ، على تحالف سومار وعلى يساره تجمع اليسار المتحد والحزب الشيوعي الاسباني (PCE) ومختلف الاحزاب التقدمية الاقليمية .من جهته اليسرى ، أغلبيته البرلمانية تضم حزب بوديموس (Podemos)—الذي تولى السلطة من عام 2022 الى 2023 ، ولكنه انفصل عن سومار ومجموعات الاستقلال الباسكية والكتالونية . جميع هذه القوى باختلاف أشكالها ومستويات التزامها ، تدعم مقاومة الشعب الفلسطيني ، بسبب دعمها لكافة النضالات التحررية من الاستعمار .
أن التزام مدريد هو ايضا جزء من تقليد دبلوماسي . الاعتراف بدولة فلسطين مع إيرلندا والنرويج في 28 مايو/ايار 2024 ودعم الاجراءات التي بدأت في 28 اكتوبر/تشرين اول 2024 لجنوب افريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد اسرائيل بتهمة " الابادة الجماعية " والتعليق الجزئي لصادرات الاسلحة الى اسرائيل ، لم ينشأ فقط من ظروف سياسية . لم تعترف اسبانيا التي يديرها الاشتراكي فيليب كونزاليز بدولة اسرائيل إلا في عام 1986 سنة دخولها المجموعة الاقتصادية الاوربية ، بعد كافة البلدان الاوربية الاخرى . في الواقع ، في أعقاب الحرب العالمية الثانية وهزيمة قوى المحور (المانيا-ايطاليا-يابان) وجدت دكتاتورية فرانكو التي تولت السلطة منذ عام 1939 نفسها معزولة عن الساحة الدبلوماسية وفي مواجهة العداء من لندن الى فرنسا ومعزولة عن الامم المحمدة وحلف الاطلسي ، اختارت مدريد سياسة الاستبدال ، وعملت على تعزيز العلاقات مع امريكا اللاتينية والعالم العربي ولا سيما مع المماليك الاردن والسعودية ومصر . توجد عدة عوامل سهلت هذا التحول : العلاقات الشخصية التي أقامها الجنرال فرانكو مع العسكر الافارقة والعرب منذ فترة الحماية الفرنسية الاسبانية للمغرب ( 1912-1956) والحنين الى الاندلس ، فترة الوجود الاسلامي في شبه جزيرة الايبيرية من ( 711 و 1492 ) .
أي ذكرى للهولوكوست ؟
تزود المماليك العربية اسبانيا بالموارد الحيوية ، البترول ، المواد الغذائية ، ودعمت كذلك المطالبة بانضمام اسبانيا الى الامم المتحدة وهو ما حدث في نهاية عام 1955 . كما عملت هذه المماليك كوسيط لإعادة تأهيل اسبانيا في نظر الولايات المتحدة وأنهاء عزلتها . في عام 1949 أصبح العاهل الاردني الملك عبد الله الاول أول رئيس دولة اجنبي يزور اسبانيا منذ نهاية الحرب . هذه العلاقات المميزة مع العالم العربي ادت في النهاية الى تشكيل روابط ثقافية فريدة من نوعها ، ففي عام 1966 أقترح سابينو الونسو فويو ، مدير صحيفة أربيا ، صحيفة الجهاز الرسمي لكتائب فرانكو على وزارة التعليم أدخال تدريس اللغة العربية في المدارس الثانوية بهدف تعزيز العلاقات بين مدريد والرياض . اعترفت اسبانيا بدولة اسرائيل بعد انتهاء فترة حكم فرانكو وعودة الديمقراطية . في عام 1996 قام الملك خوان كارلوس الاول بأول زيارة رسمية الى تل ابيب .
في البلدان مثل المانيا ، ايطاليا، او فرنسا ، فإن البناء التدريجي لذكرى المحرقة صاحبه دعم واسع النطاق لإنشاء دولة اسرائيل عام 1948 . اما في اسبانيا فقد تجاهلت هذه الديناميكية بسبب انسحابها الداخلي وعزلتها الدولية ، وبطبيعة الحال سعى نظام فرانكو الى تكيف خطابه مع التغيرات التي شهدتها أوربا بعد الحرب وذكر بوجهة " الحياد" التي اعتمدها خلال الصراع العالمي ، وتذرع في المبالغة في الدور الذي لعبه سلكه الدبلوماسي في انقاذ الالاف اليهود خلال هذه الفترة . ولكن الخطاب المعادي للسامية ظل موجوداّ داخل النظام وخاصة في المؤسسة الكاثوليكية الوطنية .
اليوم ، وباسم احترام القانون الدولي والدفاع عنه ، يلتزم السيد سانشيز مع شركائه في دبلن واسلو بالتأثير على الموقف الاوربي لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية ، وفي الوقت نفسه ، تتبنى حكومته خطا اكثر انتقادا تجاه اسرائيل وتدين حربها ضد سكان غزة وانتهاكاتها المتكررة للشرعية الدولية . مع ذلك كشفت الصحافة الأيبيرية في فبراير/شباط 2025 أنه على الرغم من القرارات المتعلقة بتعليق صادرات الاسلحة الاسبانية الى اسرائيل ، فقد سمحت السلطات منذ يناير 2024 لكثر من ستين الف قطعة ( مدفعية، قاذفات صواريخ، رشاشات ) بالمرور عبر مطار سرقسطة والقادمة من الولايات المتحدة الى مطار بن غوريون في تل ابيب (1) لذلك طالبت المقررة الخاصة بالأمم المتحدة السيدة فرانشيسكا البانيز ، السيد سانشيز والحكومة الاسبانية التي اثبتت نفسها كواحد من ابرز المدافعين عن القانون الدولي أن تعلق جميع الرحلات الجوية العسكرية الى اسرائيل .(2)
صدى الكتاب المقدس (العهد القديم)
بحسب دراسة أجراها معهد الكانو الملكي يعود تاريخها الى شهر مايو/ايار 2024 ، يرى 78% من الاسبان أن على الدول الاوربية الاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة وهذا الموقف موجود لدى الاغلبية داخل جميع التيارات السياسية . لكن لا يمكن الخلط بين التضامن الشعبي والقراءة التبسيطية للصراع : فالإسبان يفرقون بين التاريخ الطويل والدمار الذي ارتكبه الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة منذ 7 اكتوبر 2023 , واذا كان 48% من الاستطلاعات يعتقدون أن الاسرائيليين والفلسطينيين يتقاسمون المسؤولية عن أدامة الصراع ، فإن 50% يشيرون الى اسرائيل باعتبارها اصل الوضع الحالي (3) . على الرغم من الغضب المتزايد بشأن تصاعد العنف الاسرائيلي في القطاع الفلسطيني ، فإن حل الدولتين مفضلا ب 60% من الذين شملهم الاستطلاع ويتماشى مع موقف الاتحاد الاوربي والامم المتحدة ، مع ذلك هناك اقلية نشطة تمثل 37% لديهم خيار اخر وهو اقامة دولة واحدة ديمقراطية ثنائية القومية ، حيث يتعايش الاسرائيليون والفلسطينيون على قدم المساواة . هذا الخيار الذي تروج له الجماعات الناشطة والمنظمات اليسارية المؤيدة للفلسطينيين . يرقى هذا الرأي الى الاشارة أن حل الدولتين اصبح غير قابل للتطبيق بسبب توسع المستوطنات الاسرائيلية وتشتت الاراضي الفلسطينية .
يستند خط سلوك الحكومة الاسبانية على مبدأ عالمي لا يمكن المساس به : حق الشعوب في عدم التعرض للغزو أو الابادة . في الكتاب المقدس (العهد القديم) ، يذكر سفر عوبديا مكان المنفى لليهود في القدس، المعروف باسم <<سفراد>>. هكذا طرد اليهود عام 1492 من قبل الملوك الكاثوليك ما يسمى أيضا بشبه الجزيرة الأيبيرية ، منذ العصور الوسطى . واليوم وفي مفارقة مألوفة في التاريخ ،ترغب إحدى وريثة << سفراد>> في لعب دور في أنهاء أحد أقدم الصراعات الاقليمية .
ليلث فيرسترينج : سياسية، وزيرة دولة اسبانيا سابقا وعضوة Podemos
لوموند دبلوماتيك –ابريل/نيسان 2025
(1) Olga Rodríguez et Pol Pareja, « Más de 60 000 piezas de armamento han salido en aviones desde España a Israel en una ruta que continúa en 2025 », www.eldiario.es, Madrid, 19 février 2025.
(2) « La relatora de la ONU para Palestina pide a España que detenga los vuelos con material militar a Israel », www.eldiario.es, 25 février 2025.
(3) Carmen González Enríquez et José Pablo Martínez, « La opinión pública española ante el reconocimiento del Estado de Palestina », Real Instituto Elcano, 17 mai 2024.