تعرفت عليها في بداية السبعينيات حين تطلب العمل الحزبي والديمقراطي ان نلتقي بابنها عامل الميناء الذي قتله الفاشيون عام 1979. كانت تبيع الملح، وكنت أمر بها يومياً عائداً من عملي في المسفن (الداكير) التابع للميناء. ورغم تعبي الشديد ولهفتي للعودة الى البيت كنت أرتاح لحديثها... زوجها مات بالسكتة القلبية بعد ان استشهد ابنه الاكبر في عام 1963 وكانت وصيته الوحيدة:
" أم محسن...الله عليج، كل ولدي لازم يصيرون شيوعية. احنا عمال وهذا حزبنه، وابنّا ما راح بلاش، راح شهيد، خلي اخوته يأخذون ثاره بالنضال".
لقد وفت هذه المرأة، هذه الزوجة المخلصة، لوصية زوجها، فكل ابنائها التحقوا بالحزب، أصغرهم طالب والآخر مرضه لا يسمح له بالعمل. وعليها ان تعيل ايضا ابنة ابنها الشهيد.
ملابسها السوداء تعكس حزنها الأبدي وهموم المرأة العراقية وتتناقض مع وجهها البدري الابيض، ومع الملح الناصع البياض.... وبعد شفاء ابنها وارتفاع أجر الابن الثاني بعد التأميم، انقطعت عن بيع الملح. فتركت فراغا في برنامج حياتي اليومي، وان كنت ألتقيها يومياً تقريباً في بيتهم. ولكن الحديث معها في السوق الشعبي، وهي تتحدى الحياة وتداعب هذا، وتمزح مع ذاك بكلمات ريفية جميلة، له معنى ومذاق خاصان.
في اواخر 1978 افترشت أم محسن الأرض مرة أخرى واحتضنت (طاسة) الملح، من جديد/، وكأنها تريد ان تعلن للعالم ان كابوساً خيم من جديد على العراق، طاعوناً حلَّ بالوطن: اعتقالات، مداهمات، اغتيالات، اغتصاب، فصل من العمل، من المدرسة، من الجامعة، طرد من البيوت الحكومية... كانت بعباءتها السوداء تعكس حزن العراق وليله الفاشي... وكان لسان حالها يقول: "صاحت القطوه يا وادم"!
ورغم ذلك فقد فرحتُ برؤيتها مرة أخرى في مكانها القديم، خاصة وانني عدت (بطالاً)، لا يستقر لي مكان، مررّت لاستمد منها العزم وهي تتحدثُ لي بألم وكبرياء:
- واحد من الولِد محبوس، والثاني طردوه من الشغل، والزغير الطالب صار له اسبوع ما جاي للبيت، هذوله الجلاب هم رجعوا من جديد مثل من كتلوا الزعيم.
أنا اعرف كبرياءها وشجاعتها، ولكن حديثها المتحدي ذاك، جعل كل الباعة القريبين منها يشعرون بالخوف ويتلفتون يميناً ويساراً، كانوا يدمدمون مع أنفسهم أو مع بعضهم البعض بغضب مقدس تضامناً معها. وقال أحدهم متلعثما وهو يكتم غيضه:
" أم محسن، أنتِ عاقلة، هذوله جلاب، ما يفتهمون من الحجاية... اخاف يعتدون عليج واحنه ما نكدر نسكت... وانتِ تعرفين إحنة هم عدنه جهال وعوايل".
صمتت على مضض، واحمر وجهها وكأنه بركان على وشك الانفجار. رجوتها، أنا الآخر، مطمئناً ومهدئاً بأننا قد نحتاج إليها، فإذا اعتقلوها أو كسروا لها رجلاً مثلا أو ادخلوها المستشفى، فمن سيخدم المختفين في يوم ما في البيوت الحزبية.
وكأنها فهمت الاشارة بمعنى آخر، فرددت بسرعة: " يمه، إذا ما عندك مكان تختفي بي، تعال عدنه !!"
شكرتها باعتزاز وأوضحت لها ما أقصده. أوضحت إننا بحاجة الى أي شخص شجاع مثلها ولا ضرورة للمخاطرة الزائدة. وردت دون ان ترفع رأسها وهي تعبث بالملح بعصبية، ملتفتة وكأنها تبحث عن شيء افتقدته: " كَل للجماعة، آنه ما انسه وصية أبو محيسن. وذهوله (وتقصد ابناءها) ولد الحزب مو ولدي، وإذا اخذوهم للسجن، لو كتلوهم، ابوهم يفرح بكَبره، وانه مستعدة للموت. السجن للزلم وانا هلملحات تكفيني خبز".
آلمني وضعها، وأفرحني تكابرها على مصيبتها. أردت ان أسألها عن زوج ابنتها، فأنا اعرف انه دخل حزب العفالقة بفعل "المضايقات" الشديدة ولأن لديه 8 اطفال. تحدثت بشكل مراوغ كي لا تزعل، مشيرا الى كبر سنها وان الملح لا يدر كثيراً...الخ ولكنها أكدت من جديد بأنها منذ خمس سنوات لا تتحدث معه وحتى ابنتها لا تأتي إليهم فقد طردتها عندما عرفت بأمر زوجها، واعتبرت ذلك إهانة لزوجها، الذي مات غيضا، وخروجا عن وصيته. ولم تنفع توسلات ودموع الابنة وتوسطات الاصدقاء والاقارب.... كان ابناؤها يزورون أخوتهم خلسة كاللصوص خشية اغضابها أو تكدير خاطرها. وفجأة قالت" " البارحة، بالليل إجه هو ومرته، ملثم مثل الحرامي وكَال إذا الولِد يردون يختفون عدنا، ماكو مانع، احنا أهل ولازم نتعاون بالشدّه".
راودني شعور بالفرح الغامض لأن صاحبنا القديم لم ينس رفاقه بالكامل او لعله عرف بحسه الشعبي ان الخطر يشمل الجميع، أو لكأنه اراد ان يكفّر عن ذنبه، او ربما امتناناً لأنه عاش معهم (كعيدي) قبل وبعد وفاة "المرحوم" وحضر وصيته، وذلك قبل ان تعطيه النقابة بيتاً. ولكنها قطعت تأملاتي واجهضت ابتسامتي الراضية، التي لم تكتمل بعد، بتحدٍ آخر:
" كًتله الحزب ما عايز بيوت حتى يجي يمكم، وبعدين إحنا ما عدنا زلم تختفي. حزبهم هو اللي يكَلهم وين يروحون مو إنت".
لا اعرف من أين يأتيها هذا الإصرار وهذه العزيمة، وهذا التحدي. وفي غمرة انبهاري هذا وأنا اراقب حركة أصابعها التي تعبث بالملح بعصبية واضحة وكأنها تفرغ غضبها كمانعة صواعق نسيت أنني أيضاً، معرض للاعتقال. وفجأة نقرت غضبها على يدي كالصقر، وهي تشير بعينها لجهة ما. فهمت تحذيرها، فرجال الامن يراقبون المكان وقد يعتقلون كل من يتحدث معها بحثاً عن ابنيها المختفين، أو ضنا منهم انها حلقة وصل بين رفاق العمل السري. فأسرعت بين الجموع المتسوقة لأبتعد عن انظار رجال السلطة وأنا اسمع من بعيد ذلك الصوت المتحدي الهادئ، الحنون: "اشرلنج ملح!".
وأنا في الغربة سمعت ان أحد ابنائها مات تحت التعذيب، الآخر أحرق نفسه لأنهم اجبروه على التوقيع على المادة 200 سيئة الصيت، والابن الاصغر وحفيدتها مع زوجها اختفوا بلا أثر حتى الساعة.
تحية وفاء لأم محسن وأمثالها البطلات.
30/30/1989
* (الثقافة الجديدة) العدد 211، تموز 1989، ص 132 - 134