أثار موقف الرئيس الأمريكي ترامب ومخططه بالسيطرة على قطاع غزة وتهجير أهله وتحويله إلى منتجعات سياحية لأغنياء العالم باستثناء أهله، الكثير من الاستنكار والاستهجان من كل دول العالم حيث ان هذا المخطط يعتبر حسب كل القوانين الدولية جرائم حرب وتطهير عرقي.

 بالطبع حظي هذا المخطط بترحيب إسرائيلي ليس فقط من الجناح اليميني واليمين المتطرف في الخارطة الحزبية الإسرائيلية وإنما شمل أيضا غانتس ولبيد اللذين يعتبران نفسهما من أحزاب المركز والوسط.

ترامب في تبريراته لمخططه الاجرامي لترحيل أهالي غزة وتهجيرهم من وطنهم أكد أن غزة أصبحت مكانا غير قابل للحياة بسبب الدمار والتدمير الذي تعرض له القطاع على يد الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة والممولة والمدربة أمريكيا.

واذا ما استثنينا "حنية" ترامب التي انهالت فجأة على سكان غزة و"حرصه" على مصير ومستقبل الشعب الفلسطيني ، فإن هذا التبرير هو الوحيد الذي يستند اليه ترامب في سياق حماسه لمخطط الترانسفير وهو بالضبط ما هدفت إلى تحقيقه آلة العسكرية الإسرائيلية في غزة منذ بداية الحرب، الإيغال في سياسة التوحش في التعامل مع الشعب الفلسطيني في غزة لتحويل القطاع ومدنه وحضارته مكانا وحيزا لا يصلح للحياة البشرية.

أما ما غاب عن ذهن ترامب ونتنياهو ، هو المعنى الذي يحمله حيز المعيشة هذا للإنسان الفلسطيني وطبيعة علاقته به، ليس فقط بحكم التجربة التاريخية للجوء الفلسطيني من النكبة إلى النكسة  بل بحكم روابط الانتماء العميقة للأرض والوطن والهوية الفلسطينية وعمقها ومدى تجذرها في الوجدان الفردي والجمعي للشعب الفلسطيني وتعامله مع الأرض كوطن وهوية وليس تعاملا رأسماليا نفعيًا يعتمد قواعد الربح والخسارة، كذلك الذي يفهمه تاجر العقارات ترامب.

إن المنطق الذي يحكم العلاقة بين الفلسطيني هو ليس منطق التعامل بوحدات القياس العقارية والرأسمالية، بل هي علاقة وجودية ووجدانية تشمل كافة مركبات الهوية العميقة للتاريخ والجغرافيا .

ولهذا فإن مقومات فشل مشروع ترامب موجودة بنيويا في مكونات الوجدان الفلسطيني أينما وجد، بغض النظر لنوعية مخططات التصفية التي يواجهها الوجود الفلسطيني على كل الأصعدة.

ففي حالتنا أيضًا، نحن الجماهير العربية الفلسطينية الباقية في وطنها في الجليل والمثلث والنقب يجري خلق حالة مرادفة  من ذات استحالة العيش في قرانا ومدننا والأداة المستخدمة في ذلك هي العنف المبني على تفشي الإجرام المنظم في كافة نواحي الحياة في مجتمعنا .

هذا التوغل والتفشي في انتشار الاجرام المنظم في كافة مناطق وجود الجماهير العربية يهدف إلى خلق حالة من الاغتراب مع المكان الذي هو الوطن وإلى خلق حالة من القلق المستدام على للأمن الشخصي للفرد، الذي يحمله عن العزوف عن الاهتمام بالحد الأدنى بالشأن العام.

 نضيف إلى ذلك أن مؤسسات الحكم في إسرائيل تسعى بكل جهدها إلى نفض يدها من القيام بواجبها بالحد الأدنى والقاء التهمة والمهمة على قيادات المجتمع العربي الفلسطيني بكافة مستوياته من السلطات المحلية إلى أعضاء الكنيست وإلى كافة الأحزاب السياسية المنضوية تحت سقف لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية وإلى لجنة المتابعة نفسها، وتحميلها ليس فقط وزر العنف المنظم وإنما تحميلها مسؤولية مقاومة هذا العنف وهي التي لا تملك أدوات هذه المقاومة وكبح جماحه.

كل هذه العوامل مجتمعة تجعل من قرانا ومدننا وحيزنا الوطني مكانا غير آمن وبالتالي حيزا لا يمكن العيش  فيه والحلول المطروحة إما الانكفاء داخليا على المستوى الفردي وان يكون الاهتمام فقط  بالأمن الشخصي للفرد والعزوف عن الشأن العام حتى لو كانت مظاهرة او وقفة ضد الجريمة المنظمة وإما الخضوع للعنف المنظم  واجرامه  واستجداء الحماية . أو حملنا على مخرج آخر، وهو ما تسعى إليه السلطة الحاكمة، الرحيل عن ارض الوطن لاستحالة العيش فيه بسبب تفشي الإجرام المنظم.

صحيح ان هناك فرقا في الحالتين من حيث عمق الألم والمعاناة ولكن تبقى مخططات التهجير والترحيل على أشكالها المختلفة، هي التهديد الدائم للإنسان الفلسطيني في كل أماكن تواجده، إنه الخيار الوحيد الذي يجره اليه ترامب وحكومة إسرائيل، ولكن ما يجهله ترامب وأدواته في إسرائيل أن الخيار الوحيد أمام الفلسطيني هو البقاء. ولا خيار آخر أمامه غير البقاء.

عرض مقالات: