من المعترف به على نطاق واسع أن طبيعة الصراعات المعقدة التي تواجهها العراق مع حزب العمال الكردستاني، تتسم من ناحية الديناميكيات الداخلية العراقية، بصراعات القوة بين الجماعات المسلحة في محيط مدينة سنجار شمال العراق. ومن ناحية أخرى، مرتبط بحقيقة: أن الوضع يشكل جزءا من صراع إقليمي أوسع تمارسه داخل العديد من المدن العراقية تركيا وإيران. بيد أن التداعيات والتحديات السلبية الناجمة عن وجود حزب العمال الكردستاني في المنطقة، لا تجعل، البيئة الأمنية في سنجار معقدة للغاية فحسب، إنما تشكل تحديا كبيرا للأمن القومي العراقي وذريعة للتوغل المسلح لدول الجوار وتورطها في صراع القوة الإقليمي في العراق، ذلك، من شأنه عندما يلتقي عدوان لدودان، الولايات المتحدة وإيران، يصبح العراق ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بينهما على أراضيه.

 بعد تحرير مدينة سنجار من داعش في عام 2015، تمكن حزب العمال الكردستاني من ترسيخ وجوده العسكري مستغلاً الفراغ الأمني ​​القائم. واشتد التنافس على ملء الفراغ بشكل كبير بعد التحرير. وامتد الصراع إلى أبعد ما هو بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني (بي كا كا) على الرغم من دعوة الأول في البداية لحزب العمال للمساعدة في تحرير المدينة. وأدى تورط فصائل قوات الحشد الشعبي إلى توسيع ساحة النفوذ. وتدهور الوضع الأمني ​​مع تأسيس حزب العمال فصائل يزيدية في سنجار، مثل وحدات مقاومة سنجار وقوات إيزيدكسان بقيادة النائب السابق في البرلمان العراقي "حيدر ششو" ونشرها في المدينة وتحالفه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. بعد ذلك، أصبحت سنجار بؤرة للتوتر بين فصائل الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال والحشد الشعبي، وتفاقمت بسبب ضعف سيطرة حكومة بغداد على الوضع.

وهناك عامل آخر لعدم الاستقرار في سنجار وانعكاسه على عموم المدن في شمال العراق، ألا وهو، تحديات مرحلة ما بعد داعش التي اتسمت بوجود كيانات إدارية وقوى عسكرية متعددة الولاءات، تولت السيطرة على المدينة بعد تحريرها. مما أدى إلى تفاقم الوضع السياسي والاجتماعي والأمني، بالإضافة إلى التحولات الديمغرافية والصراعات العرقية والتعقيد الإداري. وزاد دخول حزب العمال الكردستاني معادلة القوة والنفوذ إلى جانب تداعيات الأدوار والتطورات التركية والإيرانية على الجبهة الشمالية في سوريا من تعقيد الوضع. كل هذه العوامل شكلت تحديات بالغة الصعوبة لتطبيع الأوضاع الأمنية والإدارية في العديد من المناطق الشمالية العراقية.  

ومن المؤكد أيضا، أن تفاقم عدم الاستقرار في سنجار يعود إلى وجود قوى متنافسة مختلفة بعد تحريرها وقربها من الحدود العراقية السورية، حيث تحدث اشتباكات عسكرية مستمرة. علاوة على ذلك، أنشأت تركيا عدة نقاط وقواعد عسكرية بعمق 40 كم داخل العراق. وفي هذا السياق، فإن الافتقار المستمر للثقة بين حكومتي بغداد وأربيل، وخاصة فيما يتعلق بالوضع المستقبلي للمنطقة وعدم اليقين إذا ما ستصبح بعد التطبيع منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، أو محافظة تحت سلطة بغداد، أو جزءا من إقليم كردستان. جرّ ذلك، تركيا، للتواجد العسكري في المدن المجاورة كما أدى إلى إحجام القوى السياسية العراقية وخاصة تلك المتحالفة مع إيران المؤثرة لعدم المضي قدما فيما يتعلق بانسحاب فصائل الحشد الشعبي من المنطقة، أو انسحاب قوات حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) إلى الأراضي التركية لتجنب امتداد الصراع داخل الأراضي العراقية وإستمرره.

السؤال البالغ الأهمية: هل تحافظ إيران على علاقات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني في العراق؟

  هناك بالفعل ـ علاقة تكتيكية بين إيران وحزب العمال الكردستاني على حساب العراق وأمنه القومي. ويمكن وصف هذه العلاقة بأنها استثمار يهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية وسياسية بتكلفة أقل. ومع ذلك، فهي لا تقارن بعلاقات إيران مع الجماعات التابعة لها، والتي تقوم على التوافق العقائدي "المذهبي" والولاء، وليس البراجماتية أو المصالح، كما نرى في علاقات إيران مع كيانات أخرى غير ذلك. والمهم الذي تجدر الإشارة إليه: إن الطرفين لديهما أسباب ومصالح عديدة للتعاون، في المقام الأول، يتمحور حول موقفهما الأساس تجاه أنقرة وأربيل.

وبتحليل استراتيجية الأمن القومي التركية من ناحية أخرى، نلاحظ، أنها تحدد دون أي رادع عدة دوائر أمنية رئيسة ضرورية لأمنها القومي داخل الأراضي العراقية. وعلى نحو مماثل، تولي تركيا أهمية كبيرة للخط الجغرافي الممتد من حلب في سوريا إلى الموصل في العراق، وتعتبر أي خرق لهذا الخط من قبل قوة محلية أو إقليمية تهديدا لأمنها القومي.

 وبالنظر إلى ذلك، أدركت تركيا أن ضعف سيادة العراق على طول الحدود يوفر فرصة لها لإجراء عمليات داخل العراق على طول الحدود المتاخمة وخاصة في محافظتي نينوى وكركوك وهما منطقتان مهمتان تاريخيا واقتصاديا بالنسبة لأنقرة، مما يشكل حزاما جغرافيا معقدا لممارسة نفوذها في العراق دون أي موقف حازم من قبل الحكومة المركزية في بغداد...

 لقد استغلت تركيا عجز العراق عن التصدي لتهديداتها، ليس فقط توسيع عملياتها العسكرية بل وأيضا لاستغلال هذه القضية سياسيا وخاصة فيما يتعلق بقضايا المياه وتأثيرها على دور حلفائها ومكانتهم في العملية السياسية العراقية. وعلى الرغم من سياسة العراق غير الرادعة لإدانة التدخلات التركية أحيانا وفي تنسيق المعلومات الاستخباراتية معها أحيانا أخرى، إلا أن هذا لم يمنع تزايد الهجمات التركية وتمدد قواتها العسكرية في عمق الأراضي العراقية.

إن التوسع الكبير في العمليات العسكرية التركية الحالية داخل العراق، تؤكد بما لا يقبل الشك: أن تركيا تسعى إلى استغلال عدم استقرار العراق لفرض بيئة أمنية جديدة، مستقلة عن تأثيرات الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية الأخرى، فيما الحكومة الاتحادية العراقية لاتزال في سبات عميق، منشغلة تنتظر، في عهد ضعف الدولة وفقدان مكانتها بين الدول، عن اتخاذ موقف وطني ثابت وصريح من التوغل التركي ووضع حد له لحفظ كرامة العراقيين وفرض احترام تركيا لسيادة العراق وأمنه القومي.

عرض مقالات: