كان على عجلة من أمره وهو يخرج من لحده مع ذكريات ذلك البيان الذي علّقه على جدران الناصرية، حينما خطّ قلمّه وهو يوقّع بإسم عامل شيوعي " أيّها العمّال! ... العاطلون عن العمل يملأون الشوارع ... نساؤهم وأطفالهم لا يملكون ما يقتاتون به ... هل فكّرت الحكومة بمساعدتهم في هذا الطقس البارد؟ لم يحصل شيء من هذا ... لأن الحكومة ليست الّا عصابة تعمل ضد الشعب ...". تذكر من أنّ الشيوعية بدأت بفضله وأمثاله من العمّال والفلّاحين كغالي زويّد، في الناصريّة والبصرة والديوانيّة " بإيقاع بطيء طبعا ولكنّه أكيد ودائم"، في حين كان شيوعيو بغداد حينها يقفون في مكانهم، ليقتصر نشاطهم على صالات الأستقبال والمقاهي، الّا قلائل منهم فهموا كما فهد ورفيقه زويّد، ماهيّة العمل الثوري.

 نعم، كان فهد على عجلة من أمره وهو يغادر ذلك الركن المهمل من مقبرة باب المعظّم،  فالليلة هي ليلة تأسيس حزبه الذي شغل العراق لعقود. إستقّل فهد أوّل تك تك صادفه الى منطقة الأعظميّة ليترأس اللجنة المركزيّة في إجتماعها هناك، ومن هناك الى الشيخ عمر حيث أوّل كونفرنس حزبي، ونراه من جديد كشبح في زقاق جديد حسن باشا يعمل بلا كلل وبإيمان وصبر ليكون لحزبه جذور عميقة  في كل مناطق العراق. وخلال سنوات 1941 – 1947 حوّل فهد الحزب الى " قوّة سياسيّة متماسكة وفعّالة وبنى له قاعدة جماهيرية من الدعم والإيمان".

 إنتقل فهد في ليلة تأسيس حزبه، الى مقهى للأنترنت ليقرأ ما مرّ على حزبه والعراق من أحداث، منذ أن أعتلى المشنقة في العام 1949 وحتّى ساعة أحتلال بلاده ولليوم، حيث اللصوصية والفقر والفساد والجريمة " لأنّ الحكومة ليست الّا عصابة تعمل ضد الشعب". فمرّ بفخر على أنتفاضتي عامي 1952 و1956 ، ووقف مزهوّا وحزبه قوّة سياسيّة تملك الشارع عهد ثورة الرابع عشر من تموز، ليجلس بعدها منكسرا على دكّة بيت فقير في منطقة عقد الأكراد، ليرى رفاقه يقاومون دبّابات البعث بمسدس ورشّاش بالكاد يرمي وعبوات من قنابل الكوكتيل مولوتوف! ذهب فهد بعد أيّام الى مسالخ قصر النهاية، ليرى دماء المئات من الشيوعيات والشيوعيين تجري في أروقة القصر، ووقف مطأطأ الرأس وهو ينظر الى سلامنا العادل، وهو يرى العراق بلون الليل حالك السواد.

 أستمر الرفيق فهد في رحلته الأنترنيتية، ليصل الى بداية السبعينيات ورفاقه صرعى رصاصات عيسى سوار وصدام حسين وناظم كزار، وليرى الآلاف في نهاية ذلك العقد في سجون البعث وأقبية الأمن والمخابرات، وهم يدافعون عن سمعة وشرف حزبهم ووطنهم وشعبهم. من كراج النهضة وبعد فطور بسيط عند بسطية (الزايرة)، أستقل أحدى الحافلات الى كوردستان، فكان يسير مع الأنصار وهم يجوبون ذرى جبال كوردستان دفاعا عن مصالح شعبهم ووطنهم، ووقف ينظر بألم الى عشرات الجثث الشيوعية الممزقّة في بشت آشان.

 مرّ الرفيق فهد بسرعة لضيق وقته كونه محكوم بالعودة للحده قبل بزوغ الفجر،  على سنوات الجوع والحصار والفقر والموت التي عانى منها شعبنا، مرّ بسرعة على اللحم المثروم عند الشعبة الخامسة، وعلى مقاصل وخشبات الإعدام في ابو غريب، نظر الى ردهات السجون الفارغة بعد تطهيرها من الفاشيين البعثيين. ليقف عند مدخل شارع الرشيد حيث قاد حزبه تظاهرة مليونية في الأوّل من آيار 1959 ، ليرى دبابتين أمريكيتين تعلنان من خلال فوّهات مدفعيهما نهاية وطن.

مشى  فهد قليلا من بداية شارع الرشيد نحو اليسار حيث ساحة التحرير وأنتفاضة تمّ وأدها، ليركب أوّل  تكتك صادفه نحو مقبرة باب المعظّم، بعد تجوّل حزين في مخازن صناديق أقتراع آخر أنتخابت محليّة . عند باب المقبرة سألته بخشوع " أيّها الرفيق، لم يبق حزب في العراق لم تتلطّخ يداه بدمائنا، ولم يبق حزب بالعراق لم يتعاون مع الأجنبي، ولم يبقى حزب في العراق لم يسرق شعبنا، ولم تمر أنتخابات الّا وخرجنا منها بخفّي حنين فهل علينا لليوم أن نردد وصيتكم بـ " قووا تنظيم حزبكم .. قووا تنظيم الحركة الوطنية"!! فودّعني بإيماءة من يده قائلا وهو يرى حال الحزب وما تسمّى بالحركة الوطنية والعراق على كفّ عفريت، عن أيّة عمليّة سياسيّة تتحدثون..؟ عن أيّة عمليّة ديموقراطيّة تتحدثون..؟ ليقول لي وهو يحث خطاه نحو قبره ( قووا تنظيم حزبكم.. قووا تنظيم حزبكم)...

 باقات من الزهور الحمراء لرفيقات الحزب ورفاقه  بالعيد التسعين لتأسيسه

المجد لشهيدات وشهداء الحزب الحاضرين في قلوبنا وعقولنا ووجداننا

ليكن تراث حزبنا منارا لنا للوصول بشعبنا ووطننا الى مرفأ الأمان

العار كل العار لمن تلّطخت يداه بدماء الشيوعيات والشيوعيين

 بين الأقواس من كتاب العراق.. الكتاب الثاني لحنا بطاطو

 

عرض مقالات: