في مايو 2003، وأمام لافتة عملاقة كتب عليها " المهمة أنجزت " على متن حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لنكولن في الخليج الفارسي، أعلن الرئيس جورج دبليو بوش " أن العمليات الرئيسية في العراق قد انتهت. في معركة العراق، انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها ”. قالها لحشد من البحارة الأمريكيين، بعد أكثر من شهر بقليل من بدء الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. والآن " تحالفنا منخرط في تأمين وإعادة إعمار ذلك البلد ... معركة العراق انتصار أحادي في الحرب على الإرهاب”.
وبدلاً من هزيمة الإرهاب وتحويل العراق إلى ديمقراطية حرة ومزدهرة، أطلقت حرب العراق العنان لدوامات من العنف والصراع، أثرت على حياة الملايين من الناس داخل البلاد وخارجها. لقد قادت حرب عام 2003 إلى ظهور جماعات سلفية - جهادية مثل القاعدة في العراق أوما يسمى بالدولة الإسلامية. وتدفق ملايين اللاجئين نحو أوروبا وأمريكا الشمالية، وتصاعد العنف في جميع أنحاء المنطقة. في كل بضع سنوات، تعود الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى العراق للقتال من أجل تحرير البلاد. وبعد 15 عامًا من إعلان بوش انتصاره الشهير، أعلن رئيس آخر للولايات المتحدة، دونالد ترامب، النصر مرة أخرى بعد هزيمة داعش في عام 2018.
وللعديد من العراقيين، فأن 25 عامًا من حكم صدام كرئيس اتسمت بالصراعات والقمع. فمنذ توليه المنصب رسميا عام 1979، بدأت حرب استنزاف استمرت ثماني سنوات ضد الجارة إيران، بعدها غزا الكويت في عام 1990. وقد أثار ذلك رد فعل إقليمي ودولي لم ينتج سوى وقوف عدد قليل جدًا من البلدان إلى جانب العراق. وتبعه عقد من العقوبات القاسية في التسعينيات. وقبل ذاك استخدم صدام حسين الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد في الشمال في أواخر الثمانينيات وأخمد بعنف حركات المعارضة الشيعية في الجنوب في أوائل التسعينيات. العراق الذي ورثه صدام كرئيس لم يكن هو العراق الذي تركه وراءه عام 2003.
في الوقت الذي دعم فيه معظم العراقيين غزو عام 2003، وهي حقيقة يسهل نسيانها. عشية الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، وفقً الاستطلاع رأي جالوب فقط، يعتقد 23٪ من العراقيين أن الحرب كانت خطأ. 3/4 يعتقد أن الحرب كانت فكرة جيدة. فور الغزو، احتفل العراقيون بإسقاط صدام وحزبه البعث. هللوا ورقصوا، وأسقطوا تماثيل الديكتاتور وألقوا الأحذية على مئات الصور التي أقامها في جميع أنحاء البلاد، لقد احتفل العراقيون بنهاية الطاغية.
كنت أحد هؤلاء العراقيين، نشأت في أسرة منفية حلمت بأن صدام حسين لن يكون في السلطة يومًا ما. لم يكن خوفنا الأكبر من بقاء صدام فحسب، بل أن يخلفه أبناؤه، وعقود أخرى عديدة من الاستبداد. وطوال عقد التسعينيات، عندما أصبح صدام العدو العام الأول دوليًا، شاهدنا الرئيس كلينتون والإدارة الأمريكية يقصفان العراق من حين لآخر، ودعوا إلى إنهاء حكم صدام. كنا نأمل أن تنجز واشنطن المهمة ذات يوم.
خلال هذه السنوات عمل والدي كصحفي في الصحافة العربية مثل العديد من الصحفيين العراقيين، كما كان سياسيًا. انضم إلى المعارضة العراقية التي ظهرت في أوائل التسعينيات وبدأ في الضغط على الحكومات الأجنبية لإسقاط صدام حسين. كان يذهب إلى اجتماعات المعارضة في لندن ونيويورك وأماكن أخرى. كنت أرافقه أحيانًا، والتقيت بشخصيات سياسية كانت تخطط لإصلاح العراق. قالوا لي أن نهاية حكم صدام ستؤدي إلى ديمقراطية وعراق أفضل. في ذلك الوقت كنت أصدقهم.
عندما جاء ذلك اليوم في مارس 2003 احتفلنا جميعا وعدنا جميعًا إلى العراق: شخصيات سياسية معارضة وأبي. لكن سرعان ما اتضح أن الوعود والضمانات بحياة أفضل بعد صدام كانت تتداعى وتسقط وسط الاضطرابات والحرب الأهلية. هل فعلا كنت ساذجاً في تصديق أن هذه المجموعة من القادة السياسيين المنفيين، أصدقاء والدي ينون بصدق بناء العراق؟ دفعتني هذه الأسئلة إلى دراسة لسياسة. الأمر الذي أثار استياء عائلتي كثيرًا (العراقيون مهتمون بدراسة الطب أو الهندسة) لكني في داخلي أردت معرفه وفهم ما هو الخطأ الذي حدث.
بعد مرور 16 عامًا على الغزو، لا يزال العراقيون بعيدًا عن أساسيات الحياة اليومية، كما أن انقطاع الكهرباء والمياه غير النظيفة أو الملوثة يجعل شهور الصيف الحارة لا تطاق. في السنوات الأخيرة، انخفض نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي، مما يعني أن العراق أقل ثراءاك والبطالة مرتفعة. لم تكن الحكومة في بغداد منذ عام 2003 قادرة على توفير أي خدمات أساسية بشكل كاف. نظام التعليم متدهور.
يشير الكثيرون إلى الطائفية على أنها سبب مشاكل العراقيين. ويتساءلون عما إذا كان المجتمع العراقي، هذا المزيج من الشيعة والكرد والسنة والأقليات الأخرى، يمكن أن يعمل كدولة واحدة. غالبًا ما يتم تأطير الصراع في العراق على أنه منافسة بين الجماعات العرقية والطائفية المختلفة في المجتمع العراقي. ومع ذلك، فإن المشاكل التي يتعرضون لها ليست خاصة بمجموعة واحدة. الكل يعاني …
وتلك التحديات المجتمعية المتأرجحة، وهي التي تسقط البلاد مرة أخرى في حرب أهلية كل بضع سنوات. وقد اعتاد العراقيون الان على عصابات إسلامية ترهب عائلاتهم، وجيوش أجنبية تغزو منازلهم وتقصفها، وطبقة سياسية فاسدة تسمن محفظتها بسرقة الثروة الوطنية.
وعلى الرغم من كل الإخفاقات المتكررة، لا يزال ذات الزعماء وذات الأحزاب السياسية يحكمون البلاد وشعبها.
أن نمو " الحنين " المتزايد بين العراقيين، سياسيا وطائفيا، (بما في ذلك أولئك الذين وقعوا ضحية لنظام صدام حسين!) دفع الكثيرين إلى إضفاء الطابع الرومانسي على الفترة السابقة، متناسين أو متجاهلين طبيعة العيش في عهد صدام حسين، بل والتوق أحيانا إلى عودته.
أن الكثير من العراقيين اليوم يقولون” رحمه الله على روح صدام حسين”. لكن هذا لا يعني أن العراقيين يريدون ديكتاتوراً، أو أنهم يفضلون حكما استبداديا للبلاد، بل على العكس، يفضل معظمهم وصول " زعيم " عبر انتخابات حرة ونزيهة. لكنهم لم يروا مثل هذه العملية منذ عام 2003. وبدلاً من ذلك أصبحت حياتهم أقل استقرارا.
لقد أوصلنا فشل قادة ما بعد عام 2003، والذين أصبحوا أثرياء في ظل نظام يشوبه الفساد المنفلت على حساب حياة العراقيين اليومية، أوصلنا إلى هذه النقطة بالذات.
لقد قال لي الكثير من العراقيين، ومن جميع المنحدرات الاجتماعية، أننا اعتدنا بأن يكون لدينا صدام واحد، ولكن اليوم لدينا المئات منه. فبعد 15 عامًا من إعلان جورج دبليو بوش أن "المهمة أنجزت”، لا تزال قصة حرب العراق وعواقبها لم تنته بعد.
أن مصطلح "تغيير النظام" - كممارسة لتغيير قيادة الدول أو الإدارة التنفيذية مع الحفاظ على مؤسسات الدولة - يرتبط في المقام الأول بالحرب العراقية (كان ذلك في اليوم الذي سبق الغزو، وأتذكر أنني سمعت أولًا العبارة الشائعة " اقطع رأس الأفعى ").
لكن تغيير النظام كان في الواقع جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. كان تدخل الأمريكيين في تلك الحرب يرتبط بأطار استراتيجية لتغيير الأنظمة في ألمانيا واليابان. وبحلول النصف الثاني من القرن العشرين كانت الولايات المتحدة منخرطة تماما في تغيير أنظمة العديد من دول أمريكا الجنوبية، بما في ذلك هندوراس والمكسيك وهايتي ونيكاراغوا وجمهورية الدومينيكان. وتابعت واشنطن سياستها لتغيير النظام في كل من الفلبين وكوريا. وساعدت في إسقاط نظام الرئيس الإيراني الأسبق محمد مصدق عام 1953.
في عام 2003، تم تسويق خطة إدارة بوش اولا لغزو العراق كتمرين لتغيير النظام. ولم يكن هذا التغيير هو الأول من نوعه في تاريخ العراق الحديث. فعلى مدار القرن العشرين، مرت البلاد بالعديد من الأحداث، بما في ذلك الإطاحة بالعرش الهاشمي عام 1958، وانقلاب 1963، وانقلاب البعث في عام 1968 (المعروف بثورة ١٧ تموز). وكان كل حدث مقرونا بحمام دم لرموز النظام السابق.
ومع ذلك، فإن ما حدث في عام 2003 كان مختلفا. فالولايات المتحدة وحلفائها من المنفيين السياسيين العراقيين، ولم يكتفوا بإزالة القيادة القديمة، بل قاموا بسن سياسات ذهبت إلى أبعد من ذلك في تدمير المؤسسات الرئيسية للدولة. وهو أمر لم يفكر الثوريون السابقون في القيام به خلال انقلاباتهم. وبعد الغزو مباشرة، أسست الولايات المتحدة سلطة التحالف المؤقتة (CPA) برئاسة بول بريمر من مايو2003 حتى تسليم السلطة في يونيو 2004. وفي حينها كان بريمر أعلى سلطة مدنية في العراق، بل وكزعيم جديد مطلق للبلاد.
وفي أول أمر أصدره، والذي بات يعرف باسم " اجتثاث البعث”، أزالت سلطة الائتلاف المؤقتة عدة مستويات من تنظيم حزب البعث من مناصبهم ومنعت توظيفهم مستقبلا في القطاع العام. كما استهدف الأمر ايضا الأفراد الذين شغلوا المناصب الإدارية العليا الثلاثة في كل المؤسسات التابعة للوزارات الحكومية ومنظمات أخرى مثل الجامعات والمستشفيات الحكومية. وتم فصل هؤلاء الأفراد من وظائفهم وخضعوا في الغالب لتحقيقات جنائية. وهكذا، وبأمر واحد، يزيد قليلاً عن صفحة واحدة طويلة، قضى بول بريمر على الهيكل المؤسساتي للدولة العراقية.
وما زالت تداعيات هذا القرار محسوسة لليوم في العراق. فوزراء الحكومة والجامعات الحكومية والمستشفيات لم يتمكنوا من إعادة البناء. هؤلاء الموظفين المدنيين والتكنوقراط الذين عرفوا كيف تدار وظائف الدولة تمت إزالتهم بين عشية وضحاها. وانتهت كل الذاكرة المؤسساتية. ليس لدى الموظفين المدنيين الجدد أي شيء للعمل به. ومنذ ذلك الحين لم يعد هؤلاء قادرين على تجديد مؤسسات الدولة.
وكان الأمر الثاني لبريمر بصفته الحاكم المدني المطلق للعراق هو حل المؤسسات الأمنية في البلاد، بما في ذلك الجيش والشرطة والقوات والبحرية الجوية ووكالات الاستخبارات وحرس الحدود. وأدى هذا التخلي التام عن المؤسسات الأمنية المحلية إلى خلق فراغ هائل في السلطة. واستغل العراقيون هذه الفوضى لنهب مؤسسات الدولة وإضعاف قدرتها. ووقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين يمثلون الآن القوة الأمنية الوحيدة في البلاد مكتوفي الأيدي أمام الذين سرقوا المعدات والتجهيزات ودمروا مؤسسات الدولة وأحرقوا المحفوظات الهامة للوثائق والمكتبات القانونية.
وضع هذا الدمار الأساس لنزاع محمي في العراق. ويلقي بعض الضوء على سبب سقوط البلاد ضحية لدورات العنف. بعد كل هذا، من كان هناك لإعادة بناء الدولة؟
كانت هناك علاقة بين مسؤولين في إدارة بوش ومجموعة من النخب العراقية المنفية الساعية كبديل لنظام صدام حسين. هؤلاء الحلفاء كانوا جزءا من المعارضة العراقية، التي تضم اساسا المؤتمر الوطني العراقي الذي أسسه أحمد الجلبي، وحزبين كرديين رئيسيين هما الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني والأحزاب الإسلامية الشيعية كالمجلس الاعلى للثورة الإسلامية في العراق. وحزب علماني هو الوفاق الوطني. وبعد عام 2003، أنضم حزب إسلامي آخر، هو حزب الدعوة الإسلامية، ليصبح جزءا من هذه القيادة التي تولت مقاليد الحكم.
لقد عاد هؤلاء القادة العراقيون جميعًا إلى العراق بعد عقود من النفي. ولأنهم يفتقرون إلى قواعد انتخابية قوية داخل البلاد، فقد ركزوا على الهوية، مشددين على الكردية أو الشيعية، كطريقة لكسب الدعم في بغداد وأجزاء أخرى من العراق، حيث كانوا غائبين عنها بشكل كبير، ومنذ عقود. ووجد صناع السياسة الأمريكيون والأجانب أن تقسيم العراق بهذه الطريقة هو الطريق السهل لفهم تعقيدات هذا البلد.
غالبًا ما ركزت التغطية الغربية لحرب العراق على حكم إدارة بوش. ومع ذلك، كان العراقيون ينصحون، وفي بعض الأحيان يدفعون رعاتهم الأمريكيين. ورغم كون التدخل الأمريكي هو الذي تسبب في تدمير الدولة، لكن قادة العراق، وبعد ما يقرب من عقد ونصف من السنين لم يتمكنوا من إعادة بناء دولة لاحقة قابلة للحياة. لقد غادر الأمريكيون، لكن هؤلاء العراقيين لا يزالون في السلطة بلا نهاية تلوح في الأفق. والتدخل الأجنبي، بما في ذلك الصراع الأمريكي - الإيراني، يواصل إعاقة أي عملية استقرار أو إرساء ديمقراطي.
من السهل اليوم الافتراض أن الطبيعة المختلطة للمجتمع العراقي - الذي يضم العرب الشيعة والأكراد والعرب السنة والمسيحيين والتركمان والشبك ومجموعات من الأقليات الأخرى - ستؤدي إلى الطائفية. لم يكن الحال هكذا دائما، ولم تكن الطائفية دائمًا جزءًا من النظام السياسي العراقي. لقد زرعت بذور طائفية اليوم في السنوات المبكرة من عقد التسعينيات.
في عام 1990 غزا صدام حسين الكويت، وتحول من حليف في المنطقة إلى فرعون في نظر الولايات المتحدة. طارق عزيز، الذي كان لوجه الدولي الرئيس لنظام البعث خلال تلك الفترة، قال بعد سنوات من اعتقاله، إن غزو الكويت كان الخطأ الأكبر ونقطة التحول الهامة. ومن هذه النقطة، بدأت مطالبة الولايات المتحدة وحلفاؤها بتغيير النظام. هذه المطالبة لم تتوقف حتى عام 2003 الى ان أنهت الولايات المتحدة مهمتها.
في عقد التسعينيات، وبعد أن قاد صدام حسين الإبادة الجماعية المعروفة بالأنفال (باستخدام الأسلحة الكيميائية لقتل ما بين 50000 و182000 كردي في الشمال)، أقامت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا منطقة حظر طيران في شمال العراق لحماية الأكراد من حكم صدام.
كما شرع الغرب ايضا في فرض عقوبات صارمة شلت الاقتصاد العراقي. وإحساسا بفرصة للتغيير مصحوبة بتشجيع من وكالة المخابرات المركزية الامريكية، بدأ قادة المعارضة العراقية بالتخطيط لمستقبل محتمل لما بعد نظام صدام. لقد سعوا إلى خلق أسس لتغيير النظام. وقدمت واشنطن دعمًا ماليًا كبيرًا لتلك مبادرة. وعقد قادة المعارضة اجتماعات عدة خلال عقد التسعينيات. وكان الفاعلون الأساسيون في الظهور هم الجماعات القومية الكردية والجماعات الإسلامية الشيعية. وانتخبت هذه المجاميع مجلس إدارة مكون من 26 عضوًا وأطلقوا على أنفسهم اسم المؤتمر الوطني العراقي. وعمل زعيمه أحمد الجلبي عن كثب مع حلفاء الولايات المتحدة لإسقاط نظام صدام حسين. من هذه الفترة حتى عام 2003، أرسلت الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات إلى المؤتمر الوطني العراقي.
اصبحت الأحزاب القومية الكردية والأحزاب الإسلامية الشيعية جنبًا إلى جنب مع داعميها الأمريكيين بناة الدول العراقية الجديدة. وسعوا إلى تأسيس نظام قائم على الهويات الطائفية للعديد من الأسباب. كان هؤلاء القادة يسترشدون بإرث دكتاتورية صدام التي اعتبروها مبنية على هيمنة الأقلية السنية التي اضطهدت الأكراد والشيعة، والذين يشكلون معا غالبية سكان العراق. والأكثر أهمية، أن هذه الجماعات كانت في المنفى لعقود. وكانوا يفتقرون إلى قاعدة انتخابية قوية داخل العراق، لذا اعتمدوا على الهوية كوسيلة لبناء مجتمعات متخيلة يمكنهم قيادتها. وقد ساعدهم هذا في الحصول على مقاعدهم والاحتفاظ بها للجلوس على الطاولة.
اسس القادة العراقيون الجدد مخططا لتقاسم السلطة أصبح يعرف باسم " المحاصصة”. وبموجب هذا الترتيب، فإن جميع المناصب الحكومية العراقية، من الوزراء وصولاً إلى موظفي الخدمة المدنية، هي مقسمة على نظام محاصصة قاسي قائم على هويات عرقية أو طائفية. وسمح هذا النظام للأحزاب السياسية بعد عام ٢٠٠٣ والقائمة على أساس التقسيمات العرقية والطائفية، بشغل هذه المناصب وبناء شبكات المحسوبية داخل الدولة. ومع ذلك، فقد خسر العديد من العراقيين العاديين والذين هم ليسوا جزءًا من نظام رعاية الأحزاب السياسية، خسروا وظائفهم. ونتيجة لذلك، ظهرت لاحقا حركة احتجاجية تندد بالمحاصصة، كرمز للنظام الفاسد لما بعد العام 2003.
أتاح غزو العراق فرصة لتنفيذ الخطط المرسومة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. فعادت الأحزاب السياسية المنفية التي شكلت المؤتمر الوطني العراقي مع محرريها الأمريكيين لالتقاط عباءة نظام صدام حسين الذي سقط. العديد من هؤلاء القادة لم تطأ قدماه أرض لعراق منذ عقود. لقد تغير الكثير من وطنهم. أخبرني بعض هؤلاء القادة أنهم بالكاد عرفوا بغداد. ومع ذلك، وصلوا واستعدوا لقيادة الناس.
تم إضفاء الطابع الرسمي على المحاصصة في العام المحوري 2005، عندما ذهب العراقيون لإجراء الاقتراع مرتين. ففي كانون الثاني، صوتوا لصالح لجنة ستضع مسودة الدستور الوطني. وفي كانون الأول صوتوا لأول برلمان. وكان المتنافسون الرئيسيون في هذه الانتخابات هم الإسلاميون الشيعة والأحزاب القومية الكردية. ولاحتكار العملية، اجتمعت جميع الأحزاب الإسلامية الشيعية لتشكيل كتلة انتخابية واحدة، أطلقوا عليها (التحالف العراقي الموحد). كما اجتمعت الجماعات القومية الكردية معًا لتشكيل كتلة انتخابية واحدة أطلقوا عليها اسم" التحالف الكردستاني ".
لكن العديد من العراقيين لا يتناسبون أو ليسوا بمقاس هذه البنية الأنيقة القائمة على الهوية. كانت الزيجات المختلطة بين السنة والشيعة شائعة جدًا، وفضل آخرون الانخراط في السياسة على أسس أيديولوجية. (أتذكر أن أحد اليساريين قال لي ذات مرة "أردت الدخول في السياسة لكنني لم أكن أعرف الحزب الذي يجب أن أنضم إليه. كانت جميع الأحزاب الكبيرة إما شيعية أو كردية أو سنية. كان على التحقق مما إذا كنت أكثر شيعية أو أكثر سنية”). هؤلاء العراقيون الذين يسعون إلى الحياة في السياسة، بدوا غير قادرين على التكيف تماما مع الانقسام العرقي والطائفي، وتم استبعادهم من العملية. وكانت أيديولوجيتهم أقل أهمية في اللعبة. كان عليهم الانضمام إلى نظام المحاصصة.
في أعقاب الغزو، جادلت سلطة الائتلاف المؤقتة بأنه من السابق لأوانه إجراء انتخابات. لكن آية الله العظمى علي السيستاني، رجل الدين الشيعي الأعلى، ضغط من أجل الانتخابات في أقرب وقت ممكن. يعتقد السيستاني أن الأمريكيين يجب ألا يستمروا في حكم العراق. وأكد أنه بدون انتخابات، سيكون العراق عرضة لخطر العودة إلى زعيم لا يمثل الأغلبية. وللعديد من الشيعة العراقيين، فإن " لأغلبية " تعني طائفتهم، والتي كانت دائمًا تحت إمرة زعماء الأقلية – السنة.
ومما لا يثير الدهشة، استبعد العديد من الجماعات السنية العراقية من العملية. لم يكن لديهم حزب سياسي بنفس الطريقة التي كان لدى الشيعة والأكراد. والمقاطعة السنية الواسعة في ذلك العام المحوري 2005، تعني أن السنة لن يكون لهم رأي كبير في صياغة الدستور، مع حد أدنى من التمثيل في الحكومة العراقية المنتخبة الأولى بعد 2003. بعد حل حزب البعث، لم يكن السنة مستعدين للتمثيل السياسي مثل الأكراد والشيعة، والذين يمتلكون أحزاب تعود لعقود سابقة. ومع ذلك، فإن القادة السنة الفرديين سيشاركون في العملية السياسية على مر السنين.
وكما ستستمر القصة، أصبحت السياسة العراقية عبارة عن لعبة لتقاسم السلطة والثروة بين مجموعة من القادة السياسيين والأحزاب التي شكلت على أسس الهوية. وأطلق عليها العراقيون اسم " تقسيم الكعكة " العظيم. في ظل نظام المحاصصة، ستضم كل حكومة عراقية لاحقة مزيجا من المسؤولين الشيعة والأكراد بشكل أساس، وكذلك قادة السنة والأقليات. لم تستبعد أية مجموعة عرقية أو طائفية في هذا الشكل من التمثيل. وجلس هؤلاء القادة جميعا في المنطقة الخضراء ببغداد، والتي تبلغ مساحتها عشرة كيلومترات مربعة، وتم فصلها عن باقي المدينة لحماية الحكومة من العنف.
أن قصة الطائفية تتناسب تمامًا مع الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 2006 واستمرت حتى عام 2008. وفي كل سنة من هذه الحرب الأهلية الدموية، مات أكثر من 1000 عراقي. من جانب أخر، شنت مجموعة من المتمردين السنة - المرتبطين بالجماعة السلفية الجهادية " القاعدة " في العراق، ومجلس شورى المجاهدين وقادة البعث السابقين - شنت حملة مقاومة ضد كل من القوات الغربية الغازية والجماعات الإسلامية الشيعية التي تولت السلطة بعد عام ٣٠٠٣. وعلى الجانب الآخر تشكلت مليشيات شيعية لمحاربة الاحتلال الأمريكي والتمرد السني معا. كان أكثر هذه الميليشيات الشيعية شهرة هو " جيش المهدي " بقيادة مقتدى الصدر..
جاءت الشرارة في فبراير 2006، عندما قصفت مجموعة من متمردي السنة أحد أقدس المواقع الشيعية وهو الصحن العسكري في سامراء. رداً على ذلك، حُشدت مجموعات مسلحة من المقاتلين الشيعة الساخطين مرتبطة بشكل أساس بجيش المهدي، وسعت إلى الانتقام. لقد اشتهروا بإدارة ما يسمى ب " فرق الموت”. وبدأت بالاختطاف والتعذيب الوحشي للسنة، وأحيانًا حفر ثقوب في أقدام السجناء قبل أن يتم إعدامهم في النهاية. ونُفذت بعض هذه الإعدامات في الساحات العامة، وتضمنت أحيانا قطعا للرؤوس.
خلال الحرب الأهلية، تحول الخطاب إلى خطاب طائفي بوضوح. وفي حمى التنافس على هوية العراق، أشار كل طرف إلى الآخر على أنه من " الخوارج”. فقد جادل الشيعة بأن السنة كانوا وهابيين قادمين من المملكة العربية السعودية، بينما جادل السنة بأن الشيعة كانوا صفويين قادمين من بلاد فارس أو إيران. ومع ذلك كان هناك أيضا صراع داخلي كبير داخل المجتمعات القائمة على الطائفة نفسها.
وبالرغم من هذا السعي للتقسيم، فإن العراق لم ينقسم بدقة إلى قطع مبنية على الهوية. فلا السنة ولا الشيعة وصلوا الى هذه النقطة بعد 2003.
عندما أراد الجنرال الأمريكي ديفيد بتريوس إسقاط التمرد السني، نظر إلى السنة الذين عارضوا القاعدة، وهي العملية التي أصبحت ُعرف باسم الصحوة السنية، والتي نجحت في جلب زعماء القبائل السنية المهمين لهزيمة التمرد السني. وبالمثل فإن جيش المهدي الشيعي كان يضم فصائل كثيرة لم تتبع بالضرورة الزعيم مقتدى الصدر. وسيقول الصدر لاحقا أن هذه الشخصيات المارقة داخل تكتله الخاص هي من أجج العنف الطائفي، مدعيا أنه ضدها. وبعد فترة وجيزة من هزيمة القاعدة، وانتهاء الحرب الأهلية، شن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي - زعيم شيعي اخر- حربا ضد جيش المهدي، عرفت باسم عملية " صولة الفرسان” أو معركة البصرة. في هذه المعركة، تقاتلت جماعات شيعية ضد جماعات شيعية أخرى.
بحلول نهاية عام 2008 كانت الحرب الأهلية قد انتهت. لقد قاتل السنة والشيعة بعضهم البعض وتوصلوا إلى تسوية مؤقتة. في هذه المرحلة، كان الوضع في العراق واعدا. الطائفية التي وسمت على ما يبدو السنوات القليلة الماضية، هدأت بشدة، وتضاءل مستوى العنف والخسائر، وبدا العراق وكأنه على طريق الاستقرار والحكم الرشيد.
مع ذلك، وبعد بضع سنوات فقط، سقط العراق مرة أخرى في حرب أهلية دموية عندما استولى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا " داعش " على ثلث مساحة الأرض العراقية في غضون أشهر، وببضعة آلاف فقط من مقاتليه.
كانت رواية داعش طائفية بالمثل. فقد بدأت تستهدف الشيعة. وكان أسوأ مثال على العنف الطائفي هو مذبحة معسكر سبايكر، حيث قتل مسلحو داعش في ١٢ يونيو ٢٠١٤ أكثر من ١٥٠٠ مجند شيعي تحت التدريب. وتم عرض فيديو لمقاتلي داعش وهم يطلقون النار على شباب شيعة مكبلي الأيدي ويرمون جثثهم في النهر.
وبعد ذلك، حشد العديد من المسلحين الشيعة، ومن بقايا جيش المهدي وبعض الوافدين الجدد، حشدوا قواهم للقتال مرة أخرى. هذه المجموعات أصبحت وحدات للتعبئة الشعبية (الحشد الشعبي). وكان بعض قادتها يعيدون أحيانا استخدم ذات الخطاب الطائفي. على سبيل المثال، قيس الخزعلي، أحد القادة السابقين لجيش المهدي، والذي انشق عن مقتدى الصدر، وأنشأ مجموعة جديدة سماها " عصائب أهل الحق”، وأدعى أن " تحرير الموصل من داعش سيكون انتقامًا من قتلة الحسين”. وهذه إشارة إلى معركة كربلاء التاريخية حين هزمت الخلافة الأموية السنية الزعيم الشيعي الحسين بن علي. ومع وجود ومضات من الطائفية خلال الحرب ضد داعش، لكن لم تحدث عمليات قتل طائفية مرتبطة بها.
تحدد رواية الطائفية قصة العراق بعد عام 2003، وهو شرح استخدم في دوائر السياسة والصحافة لتبسيط المشكلة. ومع ذلك، فقد قاد ذلك إلى فهم حرب العراق وموروثاتها التي تختلف عن الحقائق على الأرض. ركزت قصة العراق بعد عام 2003 أساسا على القادة في بغداد وفي العواصم الأجنبية من طهران إلى واشنطن. وبسبب هذا تمحورت القصة على النخبة. هؤلاء القادة هم من قاموا بتسييس الهويات العرقية والطائفية وعسكرتها أحيانا. لقد عاد الكثير منهم بعد عام 2003 إلى البلاد بعد عقود قضوها في المنفى، ومع ذلك لاتزال أسرهم تعيش في الخارج. عندما يمرض هؤلاء القادة أو أحد أفراد أسرهم، فأنهم يسافرون إلى الخارج لتلقي العلاج الطبي، لأن نظام الرعاية الصحية في العراق ضعيف للغاية. وعندما يكون لدى هؤلاء القادة أطفال، يرسلونهم إلى الخارج ايضا للدراسة لأن نظام التعليم في العراق غير ملائم. هؤلاء القادة لديهم حسابات مصرفية في دول أجنبية من الإمارات العربية المتحدة إلى بيروت إلى لندن. وبطريقة ما، ومنذ عام 2003، عمل أكثرهم كمستشارين سياسيين تم إرسالهم لإعادة البناء وسيغادرون بمجرد انتهاء عقودهم. الجيل الجديد من القادة الناشئين في العراق يفعلون الشيء ذاته.
معظم العراقيين - الضحية الحقيقية للعنف ولعقود - ظلوا بلا صوت إلى حد كبير في النقاشات التي أحاطت ببلدهم منذ عام 2003. وعلى عكس القادة الشيعة والأكراد والسنة الذين أصبحوا أثرياء بشكل لا يصدق من ثروة العراق النفطية الهائلة، فقد ترك هؤلاء القادة الناس وراءهم. في بغداد، لا يُسمح لمعظم العراقيين بدخول المنطقة الخضراء (حيث يعيش ويعمل زعماء الشيعة والأكراد والسنة).
في الآونة الأخيرة، بدأ هؤلاء المواطنون في التعبير عن مشاعرهم. لكن الانتخابات لم تكن وسيلة لتخدمهم وتوجه أصواتهم. ونتيجة لذلك، شهدت كل سنة انتخابية انخفاضا وانخفاضا في نسبة إقبال الناخبين. ففي عام 2018، كان لدى العديد من المدن في جنوب العراق إقبال فعلي لا يتجاوز ال 20 ٪ - بعيدًا عن الانتخابات الأولى في عام 2005 عندما أدلى حوالي 80 ٪ من العراقيين بأصواتهم. كثير من العراقيين يتساءلون عن مغزى التصويت. لكن هذا لا يعني أنهم ضد الديمقراطية. لكنهم يشعرون أنهم لا يريدون انتخاب نفس القادة الذين أدوا الى فشلهم. واقترن ذلك بعدم وجود اي بديل للديمقراطية. وهم على حق. فالأحزاب السياسية في العراق والمستندة على أيديولوجية تقل، وبالمقابل تزداد مثيلتها المبنية على شبكات المحسوبية.
وبدلاً من ذلك، يتجه العراقيون إلى الاحتجاجات باعتبارها الطريقة الوحيدة لإبداء رأيهم. المحتجون الشيعة في جنوب العراق يتظاهرون ضد قادتهم الشيعة ويرفضون نظام محاصصة ما بعد العام 2003. واندلع أكبر نطاق للاحتجاجات في وسط وجنوب العراق في عام2015 - وتزامن أيضا مع ذروة قوة داعش. ومع ذلك، كانت داعش جماعة سنية تستهدف الشيعة، ولم يكن الكثير من الشيعة العراقيين مقتنعين بأن قادتهم يمكن لهم أن يمثلوا مصالحهم. قال بعض المتظاهرون إن الإرهابي هو نفس الفاسد. في عام 2018، في البصرة، تحولت الاحتجاجات إلى العنف. حيث هاجم المتظاهرون وأحرقوا المكاتب السياسية لجميع الأحزاب السياسية. وفي إقليم كردستان، بدأ المتظاهرون الأكراد بالمثل في الاحتجاج على قادتهم الأكراد. كما بدأ السكان السنة في التحدث علنا ضد قادتهم. من الواضح أن السياسة القائمة على الهوية التي فرضتها القيادة الجديدة بعد عام 2003 قد تم رفضها. عالم الاجتماعي العراقي البارز فالح عبد الجبار، وقبل وفاته عام 2018، كان أول من كتب عن هذه التغييرات مجادلا أن بلاده هي في طور الانتقال القائم على الهوية السياسة المستندة على هذه القضايا.
على اية حال، هل أن العراق على مسار حقيقي بعيدا عن المحاصصة والسياسات القائمة على الهوية لا يزال سؤالا مطروحة للنقاش. ومع ذلك، فإن الجزء المفقود في قصة العراق كان صوت الشعب. ويدرك معظم الناس الآن أن نظام ما بعد عام 2003 لم يمثل أبدا أصواتهم أو مصالحهم بشكل شرعي. وهم يتحدثون بأي طريقة ممكنة، ويشكلون احتجاجاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي كمشهد مزدهر لعملهم.
تم التغلب على هذا الخلل الخطير من قبل جيمس بلوميل وفريقه من خلال سلسلة بي. بي. سي وهذا الكتاب. بدلاً من نفس الروايات القديمة التي ميزت تغطية حرب العراق منذ عام 2003، فأن جيمس قد ركز على قصة العراق، وكما روى العراقيون العاديون - الذين لم يعيشوا في مجمعات آمنة أو في المنطقة الخضراء، ولكن في العراق الحقيقي. كان من أوائل الذين أدركوا صوت من لا صوت لهم.
مع استمرار قصة العراق، ستستمر الفجوة بين النخبة والمواطن في الاتساع. وأولئك الذين يروون القصة يصبحون مهمين لفهم دورات الصراع وتدفق اللاجئين واندلاع الاحتجاجات، وكذلك صعود الجماعات المسلحة، بما في ذلك التنظيمات السلفية الجهادية مثل داعش.
إن فهم جذور المشكلة بشكل أفضل يتطلب بالضرورة الاستماع إلى العراقيين العاديين، وليس الى النخبة التي خذلتهم طوال العقد ونصف العقد الماضيين.
ريناد منصور
زميل باحث أول، في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشاتام هاوس