قد تبدو المقدمات مملة، وخصوصا عندما تتعلق بتوصيف نظام الفوضى في العراق، والذي وضعت دولة الاحتلال أسسه الرئيسية، وأبدعت القوى العراقية المتنفذة لاحقا في تكريس نظام المحاصصة الطائفية – الاثنية المتداخل مع والمدعوم من منظومة الفساد، وهياكل السلاح الموازي المتنوعة والمتباينة من حيث حجمها وتركيبتها وقوة التأثير التي تمتلكها على القرار السياسي في البلاد.
إذا ما اعتمدنا الشكلية في تثبيت شرعية النظام السياسي القائم، فسنجده قائما على دستور أقر في استفتاء وتداول "سلمي" للسلطة على أساس انتخابات عامة، ومجموعة من القوانين غير المكتملة، والكثير منها موروث من الدكتاتورية المنهارة. بالإضافة الى إمكانية الاتفاق على ان الدستور النافذ يحتوي على مواد إيجابية قابلة للتطوير، وفق رؤية ديمقراطية حقيقية، وأخرى تكرس عدم الوضوح وقابلة للتأويل، وبالتالي توظفها الكتل المتنفذة لإدامة سلطتها، وحماية منظومة الفساد المرتبطة بها.
لقد تحول الدستور في الواقع الى وسيلة يجرى اللجوء اليها عن الحاجة، وتوظف في خدمة مراكز القوى الرئيسية، في حين يغيب بالكامل، عندما يتعلق الامر بمكافحة الفساد، والسيطرة على السلاح الموازي، والكشف عن ملفات اغتيال المعارضين وعمليات قتل المحتجين.
فاذا كان من الطبيعي ان تصر القوى المتنفذة على ان النظام القائم ديمقراطي، ويمتلك مقومات التطور والانتقال بالعراق الى ضفة الأمان والديمقراطية، فان الامر مختلف عندما تتسرب هذه الرؤية الى بعض الأوساط في معسكر قوى معارضة النظام، وخصوصا القوى الجادة في عملها من اجل تحقيق التغيير الشامل بعد ان اقتنع اغلبها بان نظام الدولة الفاشلة السائد لا يمكن إصلاحه. وبالتأكيد لا يمكن وضع أصحاب هذه الرؤية في سلة واحدة، فبعضهم ينطلق من قناعات يؤمن بصحتها وهي حق له، في حين يمكن وضع البعض الاخر في خانة من يتجنب أدنى مواجهة سياسية سلمية مع المراكز المتنفذة، لكيلا يتحمل التبعات المترتبة على ذلك ولا يخسر المنافع التي حصل عليها.
وفي سياق البحث عن البدائل الممكنة، يلجأ أنصار فكرة تطور الوضع القائم الى دولة ديمقراطية مستقرة، حتى لو كلف ذلك استمرار سرقة عقود إضافية من عمر العراقيين ومستقبلهم الى التركيز على قضايا تعد بديهية وشكلية، حتى في أكثر دول بلدان جنوب العالم المبتلاة بالاستبداد وانتشار الفساد، مثل وجود دستور، ومؤسسات دستورية وقضائية، بعيدا عن حقيقة كون ان جميع هذه الأشياء مهمشة، وحتى مغيبة. وأكثر من هذا يذهب البعض الى مغالطة كبيرة تستند الى التبسيط، عندما يخلطون بين نظام المحاصصة السياسية السائد في العراق، والأنظمة الديمقراطية السائدة في بلدان متنوعة قوميا وثقافيا، ويقوم نظامها السياسي على الفيدرالية او الكونفدرالية، كما هو الحال في سويسرا وبلجيكا مثلا.
ان هذا التبسيط يدعي ان الأنظمة في هذه البلدان الغربية عمادها أحزاب سياسية تفوز بالانتخابات وتختار ممثليها في السلطات التشريعية والتنفيذية، ولا يختلف الامر في العراق. اما الفرق بين طبيعة تلك الأحزاب، والأحزاب والكتل المتنفذة عندنا فليس مهما لدى هؤلاء. ولا يضيرهم ان ابسط المهتمين بالشأن السياسي في العراق يعرفون ان اغلب الأحزاب والكتل السائدة، تفتقر الى ابسط المقومات الحقيقية للحزب السياسي مثل البرنامج واضح المعالم والملموس، وعقد مؤتمرات دورية تسبقها مناقشات علنية لتجديد قيادات هذه الأحزاب، وان اغلب هذه الأحزاب والكتل هي ليست اكثر من اطر للتحشيد للحفاظ على السلطة في اطار نظام المحاصصة، واشكال لتجميع الأنصار لترسيخ الانقسام الطائفي والعرقي والقبلي أيضا، والكثير من هذه الأحزاب مشاريع شخصية تختفي باختفاء مالكيها، بل اكثر من هذا، ان جنون السلطة والمال قد همش وابتلع احزابا سياسية ، لعبت في العهود السابقة دورا مؤثرا، بغض النظر عن الاتفاق او الاختلاف مع توجهاتها.
اما الحجة الأكثر ضررا فهي القول ان أنظمة الديمقراطيات الغربية ذات التنوع القومي والثقافي هي أيضا أنظمة قائمة على المحاصصة، فلماذا هذه المبالغة والتهويل في توصيف نظام المحاصصة في العراق. ينسى أصحاب هذه الرؤية ان التنوع القومي والثقافي محكوم بدستور نافذ وفاعل وليس مركونا جانبا، وان هناك تراكما قانونيا وثقافيا حاميا للدستور ولتطبيق القوانين بدرجة كبيرة في هذه البلدان، وان مجتمعا مدنيا عماده الأحزاب والحركات السياسية والاجتماعية والنقابات، وليس المنظمات غير الحكومية المنتشرة في العراق، والتي يخضع الكثير منها لإملاءات المانحين.
بالإضافة الى ان التداول السلمي للسلطة، يجري في إطار تحالفات تقوم على برامج اقتصادية – اجتماعية متنافسة، وليس على أساس التجييش الطائفي والعرقي والقبلي، وتحت تأثير غير محدود للمال السياسي، وسلطة السلاح. وحتى الأحزاب التي تحمل في تسمياتها مفردات دينية مثل "الديمقراطي المسيحي" في البلدان المذكورة، لا تتبنى برنامجا يقوم على تعصب ديني، على الرغم من الطبيعة القيمية المحافظة لها. وان تغيير الوزرات يجري هناك وفق معايير قانونية تمتلك الديمومة، فالذي يتغير في الوزارة بعد الانتخابات الوزير وفريقه ومناصب سياسية محدودة، ولا تتحول الوزارة الى اقطاعية لحزب الوزير وعائلته ويجري تطبيق المحاصصة، في أكثر الأحيان، حتى على ابسط المستخدمين.
ان الصراع على دساتير الدول وتشريع قوانينها هي في الجوهر معارك سياسية اجتماعية بامتياز، كما رأينا ذلك في تجربة تشيلي الأخيرة، لذا فان أي فصل بين شكل ومضمون هذه الوثائق وخلفيتها السياسية والفكرية يؤدي في النهاية الى تقديم خدمة مجانية، غبر محسوبة، للقوى المتنفذة
ويؤدي ذلك عمليا ايضا، حتى وان كان غير مقصود، الى نشر الأوهام في صفوف أنصار مشروع التغيير، وخصوصا غير المختصين او من أصحاب الاهتمامات الاكاديمية، ويضعف هذا الطرح إمكانيات تحشيد الناس لصالح مشروع التغيير، فالمواطن من حقه ان يسأل، اذا كان الدستور لا غبار عليه، ومنظومة القوانين قابلة للتطور بما يعزز الديمقراطية، وان القضية لإزالة هذا الخراب المطبق على البلاد والعباد مسألة وقت لا اكثر، فلماذا اذن النضال وتحمل المشاق والاخطار لتحقيق التغيير الشامل؟
*- نشرت في جريدة المدى في 29 تشرين الثاني 2023