هنا في غزة تحت ركام البيوت او في مراكز الايواء او خيم اللجوء المؤقت ، وما أن تشرق الشمس وتصعد رويداً رويداً تعانق كبد السماء حتى يهرع  المواطنون الى تفقد هواتفهم النقالة يتفحصون إن كان تبقى فيها شيئٌ من الشحن أو توفرت الشبكة بعد ان توقفت  إثر ليلة عنيفة تساقطت فيها القذائف على كل مكان بما فيها محطات تقوية الارسال التي دمر معظمها اثناء القصف. يذهبون لصندوق الرسائل الواردة يتفحصون بعيون ثاقبة وأعناق مشرئبة عن رسائل الاطمئنان الواردة من كل قريب ومحب فيقرأها بصوت مسموع عبارة  أضحت محفوظة عن ظهر قلب ( نحن ما زالنا بخير طمنونا عنكم ) فيردون عليها برسالة مماثله بكل ودٍ وأمل نحن أيضًا ما زلنا على قيد الحياة السلامة للجميع ،هكذا في هذه الحرب المجنونة اصبحت مهمة الاطمئنان والتطمين  هي أول ما يلجأ لها الناجون من الموت وما زالوا ينتظرون قدومه في كل حين …الموت بصاروخ من طائرة او قذيفة مدفع من دبابة كان أو زورق فكله موت كيفما يكون ، ينتظرون الموت أمام المخابز التي دمرت فوق رؤوس الباحثين  عن الخبر  أو تمزقت اجسادهم وتطايرت اشلاء أمام نقاط توزيع المياه الآخذة بالشح،  ينتظرون الموت متمسكون بالحياة لكنهن متمسكون بالأمل  يتدبرون أمورهم لحظة بلحظة وهم  في اليوم السابع والعشرين للعدوان مصرون على الصمود ، في اليوم "نصف رغيف يكفي ونصف زجاجة مياه تكفي" يقفون على الحافة بين الحياة والموت القادم من غربان السماء في كل لحظة وقد باتوا يعتادون العيش في ظل اقتصاد البقاء في ظل الاحتمالات الراجحة لطول أمد الحرب ، ينظمون ما تبقى من بقايا الحياة بكل عزيمة واصرار ينتظرون انقشاع الليل الذي يقضونه نصف نيام على قطعة من كرتون او مقعد خشبي أو بطانية بالية وجدوها على حافة الطريق أو حملوها على عجل قبل تدمير البيت ، ينتظرون انقشاع الليل بظلمته الموحشة ولهيب قذائفه الحارقة يتكورون حول بعضهم البعض يتهامسون حول الأمل في الخروج سالمين من هذه المحرقة ،مصرون على الموت معاً كما كانوا في الحياة معاً ، وحين يصبح الصبح وتبزغ شمس النهار  بحزنه المتربص في القلوب يتفقدون أحباءهم ويحصون طوابير شهدائهم المكدسة أكوام وأكوام في باحات المستشفيات  يرتبون دفنها على عجل  بمن حضر  في مقابر جماعية أُعدت خصيصاً لهذا الغرض  هنا في غزة وليس في أي مكان أخر  يدفن الموتى جماعات وفي كفن واحد  في غزة تتصل للاطمئنان على صديق أو رفيق او حبيب فيجيبك شخص أخر لقد استشهد صاحب هذا الجوال فتحبس دمعتك  المتحجرة بعد أن جفت الدموع حصرك و في القلب غصة، أول امس صباح يوم الثلاثاء وردتني الرسالة (مرحبا رفيق طمنى عنكم، برن عليك م بمسك الخط السلامة يارب) فرددت عليه عندما توفرت الشبكة لديّ مساءً  "نحن بخير  طمنا عنكم " ولكن الرسالة لم تفتح لوقت طويل وما زالت لم حتى الآن ، فكانت تلك رسالة الرفيق كمال حمد أبو ضياء الذي استشهد باسماً مع ولده محمد في مجزرة قصف جباليا مساء الثلاثاء. وكما على كل الشهداء حزنت تألمت أننا لم نتمكن من تشييعهم كما يلقيه بهم وهو الذي لم يقصر يوماً في فرح أو ترح  "وداعاً لكل الشهداء" . وهكذا رغم الوجع سنبقى  نقول "طمنونا عنكم نحن ما زلنا بخير "

* عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني ( مدينة غزة ٢-١١-٢٠٢٣)

عرض مقالات: