قبل خمسين عامًا، وفي 28 تموز 1973، افتتح المهرجان العالمي العاشر للشبيبة والطلبة في برلين الشرقية، بمشاركة 26 ألف شابة وشاب من اغلب بلدان العالم، بالإضافة الى 5 آلاف يمثلون اتحاد الشبيبة الألماني الحر والمنظمات المحلية المرتبطة به. لقد شكل المهرجان ذروة للتفاؤل في أوائل السبعينيات، عندما بدت جمهورية ألمانيا الديمقراطية أكثر حرية وعالمية.

بعد ظهر ذلك اليوم، غطت سماء زرقاء لامعة مدرجات ملعب الشبيبة العالمي في برلين. لقد حانت اللحظة التي انتظرتها شبيبة جميع القارات الخمس منذ فترة طويلة، والتي استعدوا لها، في سياق النضال ضد الإمبريالية، عبر آلاف الفعاليات من أجل السلام العالمي، ومن أجل تقدم البشرية.  لقد بدأ حفل الافتتاح الكبير لمهرجان الشبيبة والطلبة العالمي العاشر. الذي غطته وسائل اعلام المانيا الديمقراطية بشكل تفصيلي.

 ومضة في تاريخ المهرجان

اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي، الذي تأسس في لندن عام 1945 ،  أنظم الى صفوفه في البداية الشيوعيون والاشتراكيون والبرجوازيون.  لم يستمر هذا التنوع في المنظمة العالمية، اذ سرعان ما أصبحت اطارا للمنظمات اليسارية والتقدمية، بعد   مغادرة الآخرين، الذين حافظ بعضهم على حضور المهرجانات العالمية في العقود التي تلت التأسيس. أول مهرجان عالمي نظم عام 1947 في براغ، تبعه مهرجان بودابست عام 1949 .

في عام 1951، استضافت برلين المهرجان الثالث، وكانت المدينة لاتزال تحمل اثار دمار المعارك، هل كانت الاستضافة بادرة صلح؟ وعلى الرغم من ان المهرجان الثالث، جاء بعد مرور سنوات قليلة، على نهاية حرب البربرية الفاشية، وانعدام الثقة بالألمان لا يزال كبير( كبيرا )  بين شعوب العالم. شهدت برلين التي لم يفصل الجدار بعد شرقها عن الغرب حركة ذهابًا وإيابًا، ومعارك شوارع في بعض احياء في الجزء الغربي من المدينة.  لقد مثلت هذه السنوات ذروة الحرب الباردة، حيث اندلعت حرب ساخنة في شبه الجزيرة الكورية، والتي انتهت بعد عامين باتفاقية لوقف إطلاق النار في 27 تموز 1953، وليس بمعاهدة سلام، فالأخير  لا يزال غائبا حتى اليوم عن الكوريتين.

المهرجان العاشر

 كان الشعار المركزي للمهرجان «من أجل التضامن الاممي والسلام والصداقة».  مر ممثلوا أكثر من 1700 منظمة شبابية وطالبية وطنية من جميع أنحاء العالم، بضمنها، وفد عراقي موسع سنتأول مشاركته في الجزء الأخير من هذه المادة. و منظمات الشبيبة والطلبة القادمة من المانيا الغربية، والتي كان عدد ممثليها 800  مشاركا  توزعوا على اتحاد الشبيه واتحاد الطلبة  القريبين من الحزب الشيوعي الألماني، و ومنظمتي شبيبة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم في المانيا الغربية حينها، وشبيبة الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض في غرب المانيا، مرو امام المنصة الرئيسية، حيث حيا ممثلو الحزب والدولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة، وضيوف المهرجان الأمميون  كالمناضلة الشيوعية الأمريكية أنجيلا ديفز، التي حررت للتو من زنزانة الإعدام الوشيكة في سجن بالولايات المتحدة بفضل حملة تضامن دولية، بما في ذلك ملايين البطاقات البريدية من جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات و روبرتو فيزي السكرتير العام لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي. وكانت مدرجات الملعب تغص، حتى آخر مقعد، بعشرات الالاف من المشاهدين، الذين حيوا بحماس الوفود المستعرضة وهي تحمل المشاعل والاعلام. وضم حفل الافتتاح عرضا رياضيا ضخما  للجمباز، بالإضافة إلى عرض موسيقي للفرق المركزية لاتحاد الشبيبة الألماني الحر، ومنظمة اشبال ارنست تيلمان (سكرتير الحزب الشيوعي في المانيا، الذي اغتاله النازيون في زنزانته في عام 1944).

وستبقى ذاكرة المشاركين في المهرجان سعيدة بما خزنته من صور الانفتاح والتنوع، والحشود المحتفلة في ساحة الكسندر مركز مدينة برلين الشرقية، ساحات برلين الموحدة، ومعالم المدينة الأخرى: نافورة الصداقة والساعة العالمية ، وكذلك في شارع  كارل ماركس المشجر، وجزيرة الشبيبة . وسوف لن يغيب عن الذاكرة أيضا قوس قزح الأزياء التقليدية المتنوعة، الملابس الشعبية للكرد وشعوب اسيا الوسطى، القفطان ، الساري والعباءات ، مناديل منظمة التحرير الفلسطينية ، العمائم ، القبعات بمختلف أنواعها، لسكان إقليم الباسك وشعوب اوربا على تنوعها ، التنورات القصيرة ، والشعر الطويل ، ونهر جاري من لغات وثقافات الشعوب والخفة والبهجة التي غطت الجميع، والعشاق الذين جابوا حدائق المهرجان.

الأجواء السياسية

كان الوضع السياسي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية في بداية السبعينيات مواتيا. كانت هناك روح من التفاؤل. أدى انتقال قيادة الحزب والدولة من فالتر اولبرشت إلى إريش هونيكر عام 1971 والتوجهات الجديدة للمؤتمر الثامن للحزب الاشتراكي الألماني الموحد إلى إثارة آمال كبيرة لدى السكان في مستوى معيشي أفضل ومزيد من الحريات. وبدا وكأن ذروة الحرب الباردة قد انتهت.

في 21 كانون الأول 1972، تم التوقيع على المعاهدة الأساسية للعلاقات بين جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وبدأت الجهود المبذولة للحصول على الاعتراف الدولي بجمهورية ألمانيا الديمقراطية تؤتي ثمارها. وفي 3 تموز 1973، انعقد المؤتمر الأول حول الأمن والتعاون في أوروبا في هلسنكي.  وفي كانون الأول من ذلك العام، كان على الولايات المتحدة أن تلتزم بانسحاب جميع قواتها من فيتنام في اتفاقية باريس. والذين شاركوا في المهرجان يتذكرون بعض أعضاء الوفد الفيتنامي، الذين لا زالوا يرتدون زي المقاتلين، بضمنهم شابات صغيرات، عاد الكثيرون منهم بعد المهرجان العالمي الى الجبهات، لأن الحرب استمرت عامين اخرين.

كان الهدف من تنظيم مهرجان الشبيبة العالمي، هو ارسال رسالة للداخل والخارج بشأن: الانفتاح على العالم والحصول على الاعتراف عالميا، وفي سبيل علاقات الوثيقة بين الشبيبة الألمانية ودولتهم الاشتراكية.

كرم ضيافة وامن مبالغ فيه

كانت المشاركة بالنسبة للشبيبة الالمانية في فعاليات المهرجان امتيازا كبيرا  . وكانت المعايير المطلوبة : الأداء الجيد، والالتزام الاجتماعي، و "موقف طبقي اشتراكي"، وامتلاك مهارات لغوية جيدة في اللغة الروسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو الفرنسية. وكان هناك أيضا تدقيق أمني للمندوبين الرسميين.

وكان الأساس لضمان التحضير للمهرجان العالمي العاشر وتنظيمه، الأمر رقم 13/ لسنة 73، والذي أصدره وزير أمن الدولة إريك ميلكه في 18 نيسان 1973. والذي تضمن ضمن أمور أخرى الى: „المراجعة السياسية العملية لجميع الأشخاص الذين يشاركون في المهرجان كأعضاء في وفود المقاطعات أو الاتحادات المركزية الألمانية، أو الذين سيتم الاستعانة بهم لتنفيذ المهام الأمنية". وتراوحت الإجراءات الأمنية الشاملة، والتي غطت 50 صفحة، بين الحماية الاكيدة للمشاركين الأجانب ومنع الأنشطة الإرهابية ورصد "الفئات السلبية من الشباب، وكذلك المطلق سراحهم بموجب قرار العفو"، وكانت المبالغة في الحاجة الى الامن مبالغًا فيها. لقد تم الاستفسار من المشرفين على الوفود الأجنبية باستمرار عن ما يحدث والمزاج العام والآراء المختلفة خلال المهرجان.

 عودة التناقضات

عندما أعلنت، في 5 آب 1973، 11 لعبة نارية نهاية المهرجان، كانت الحصيلة إيجابية. لقد تم تعزيز دور جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة عالميا. وبالنسبة لمعظم المشاركين، كانت الأيام في برلين تجربة وفرصة لا تُنسى.

ولكن وبالتزامن مع هذه الصورة، كان الزمن السياسي يبدو أكثر صعوبة مرة أخرى، سواء في جمهورية ألمانيا الديمقراطية أو على المستوى الدولي.  لقد دفع الانقلاب العسكري الفاشي في تشيلي في 11 ايلول 1973، العديد من التشيليين إلى المنفى. وجد البعض منهم  وطنا ثانيا له في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وفي منتصف السبعينيات، بدأت بين الناتو وحلف وارسو، دوامة سباق تسلح جديدة. وأدى تسهيل السفر بين الدولتين الالمانيتين الى اتساع نطاق الرقابة الأمنية في المانيا الديمقراطية السابقة.

 المشاركة العراقية

في البداية لابد من تسجيل الشكر للرفيق والصديق الفنان المسرحي المعروف هادي الخزاعي، الذي زودني، معتمدا على ذاكرته اليقظة، بمعظم التفاصيل الواردة في هذه الفقرة، ولعله من المفيد دعوة الأعزاء الذين شاركوا في المهرجان العاشر، او غيره من الفعاليات العالمية والإقليمية الهامة الى تسجيل ذكرياتهم وانطباعاتهم عن هذه المحطات.

 جاءت المشاركة العراقية صورة لوضع العراق السياسي، حيث كانت البلاد تعيش فترة تحولات دار ويدور جدل بشأن مسارها ومالاتها. وقد انعكست هذه الحقيقة على تركبيه الوفد العراقي حيث ساهمت فيه الى جانب أعضاء المنظمات الديمقراطية العراقية: اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي، واتحاد الطلبة العام ورابطة المرأة العراقية، المنظمات التي كانت تمثل العراق رسميا في الاتحادات الديمقراطية العالمية، وبالتالي فان مقاعد الوفد البالغة 300 مشارك كانت في الأصل مخصصة لهذه المنظمات. ولكن المتغيرات السياسية حينها، كانت وراء اشتراك ممثلين عن المنظمات الشبابية والطلابية المرتبطة بحزب البعث الحاكم، وكذلك ممثلين عن منظمات الطلبة والشبيبة الكردستانية المرتبطة بالحزب الديمقراطي الكردستاني.

من الوجوه السياسية التي حضرت المهرجان، مع حفظ الألقاب كمال شاكر، لبيد عباوي، والراحل مهدي الحافظ.

قبل المشاركة في المهرجان، كان هناك برنامج تحضيري أعده اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي للتعريف بالمهرجان واهمية المشاركة   فيه، ولهذا شكلت لجان ثقافية وفنية ورياضية ونظمت العديد من الفعاليات التحضيرية التي شهدتها بغداد ومحافظات أخرى، سبقها عقد سلسلة من الاجتماعات التحضيرية. ولعل من اهم وأطرف هذه الفعاليات مباراة كرة القدم بين نادي البريد بكامل نجومه، وفريق للفنانين العراقيين ضم 17 فنانا   منهم مع حفظ الألقاب: فاروق فياض، كوكب حمزة، اديب القليه جي، مقداد عبد الرضا، ثامر الزيدي، بول روبنسن هادي الخزاعي، غازي القيسي، ناصر حسن، فاضل جاسم، علي ياس، أبو شعلة، حسين اللامي، وحمودي الحارثي. وكان حكم المباراة الفنان فاضل رشيد، الذي جمع بين صافرة الحكم وبعضا من مربعاته الخفيفة. وشاهد المباراة أكثر من 3 آلاف متفرج، وحظيت المباراة بتغطية إعلامية واسعة. وكانت هناك مباراة ثانية جرت في بعقوبة ولكن نصيبها من الاهتمام كان متواضعا. يذكر ان اللاعبين الدوليين  منعم جابر وكاظم عبود، اللذين كانا من ابرز نجوم البريد حينها، لعبا دورا بارزا في التحضير للمهرجان باعتبارهما قياديين  في اتحاد الشبيبة الديمقراطي في ذلك الوقت.

ضم الوفد الفني المشارك في مهرجان برلين كلا من نجم الاغنية السياسية جعفر حسن، والمبدعين كوكب حمزة، حميد البصري وشوقيه العطار وطالب غالي وقصي البصري، وعباس الجميلي، وكذلك التشكيلي الفنان فؤاد الطائي. ولابد من الاعتذار عن المساهمين الذين لم يرد ذكرهم، لعدم توفر وثيقة جامعة بكل الاسماء

والمعروف ان النشاطات التحضرية والفعاليات التي قدمها فنانو ورياضيو العراق الديمقراطيون، وكذلك النشاط السياسي والثقفي حظيت باهتمام كبير، خلال المهرجان، وكان لها صدى أكبر في الشارع العراقي الذي كان يشهد سنوات انفتاح لم تدم طويلا، اذ سرعان ما عاد قمع السلطة الدموي بعد سنوات الى الواجهة، تبعته حروب النظام ومغامراته الطائشة، والحصار، وكانت الخاتمة الاحتلال الأمريكي واسقاط الدكتاتورية، وعشرين عاما من دولة المحاصصة والفساد الفاشلة.

فريق الفنانين من اليسار وقوفا: فاضل رشيد، مقداد عبد الرضا، علي ياس، ابو شعله، فاروق فياض وغازي القيسي، و اديب القليه جي. الجالسون من اليسار: رزاق اللامي، هادي الخزاعي، بول روبنسن، ثامر الزيدي، كوكب حمزة، ناصر حسين، فاضل جاسم

انجيلا ديفز وفالنتينا تلشكوفا في المهرجان

المناضلات الفلسطينيات والفيتناميات في مركز اهتمام زوار المهرجان

اريش هونيكر يتوسط روبرتو فيزي السكرتير العام لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي و غونتر يان سكرتير الشبيبة الألمانية الحرة في حفل افتتاح المهرجان

*- نشرت لأول مرة في العدد 169 آب 2023 من مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: