لا اعتقد ان عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قد عاش حقا سنوات سلام، فالحروب والعنف استمرا وأصبحا جزءا من حياة الناس اليومية. والنتيجة دمار ومعاناة لا حدود لهما. ووفقا لمعطيات الأمم المتحدة، مقابل كل قتيل مباشرة في الحرب، يموت أربعة آخرون نتيجة لعواقبها غير مباشرة.

أظهرت دراسة نشرها في منتصف أيار الفائت "مشروع تكاليف الحرب" في الولايات المتحدة "كيف ينجو الموت من الحرب". تناولت الدراسة مصير الضحايا الذين قتلوا بشكل غير مباشر في "الحرب على الإرهاب" التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان والصومال وسوريا واليمن. لقد أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش هذه الحملة بعد التفجير الإرهابي الذي نفذه ارهابيون اسلامويون في 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن.

يجري العمل بمشروع تكاليف الحرب في معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون في مدينة بروفيدنس، عاصمة ولاية رود آيلاند، وهي واحدة من أقدم وأشهر المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة. يعتمد العلماء المعهد على بيانات الأمم المتحدة وتحليلات مختلف الخبراء. ويؤكدون أن عواقب الحروب "واسعة النطاق ومعقدة بحيث لا يمكن في نهاية المطاف حصرها بدقة". ويقدرون عدد قتلى الحروب الامريكية المشار اليها ما بين 4,5 و 4,6 مليون ضحية.. وفقًا للدراسة، هناك 3,6 - 3.7 مليون "حالة وفاة غير مباشرة". ويستمر عدد القتلى في الارتفاع، مع استمرار مخلفات الصراع.

تقول ستيفاني سافيل، المديرة المشاركة للمشروع وكاتبة الدراسة الأخيرة: "غالبًا ما تقتل الحروب عددًا أكبر من الناس بشكل غير مباشر أكثر من القتل المباشر". المدنيون الأبرياء هم الأكثر تضررا، يموتون حتى بعد صمت المدافع نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية والبيئية والنفسية والصحية الناجمة عن الحروب التي تشنها الولايات المتحدة.

تشير الدراسة الى مقتل 177 ألفًا من ضباط الجيش والشرطة المحليين الذين لقوا حتفهم في المعارك في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا بين عامي 2001 و2019 فقط. وبالإضافة الى أكثر من 7 آلاف جندي أمريكي قتل في العراق وأفغانستان. وكذلك 8 آلاف قتيل من مما يسمى بالمقاولين العسكريين والعاملين بالشركات الأمنية، الذين يكلفون بالحفاظ على "الامن" المحلي في البلدان المحتلة. وهذا الرقم تقديري لأن غالبية الذين وقعوا عقودًا مع الجهات العسكرية الأمريكية هم من الرعايا الأجانب. ولم تذكر الدراسة عدد قتلى البلدان الغربية الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية.

ومما يثير الاهتمام أيضًا معدل الانتحار بين قدامى المحاربين الأمريكيين. إنها تفوق حالات الانتحار في صفوف عامة السكان. بعد تقييم البيانات الحكومية الرسمية، توصلت الدراسة إلى استنتاج مفاده أنه بعد أحداث 11 ايلول، مات ما لا يقل عن أربعة أضعاف عدد الجنود النشطين وقدامى المحاربين عن طريق الانتحار مقارنة بقتلى العمليات الحربية المباشرة. لقد تم توثيق 30,177 ألف حالة انتحار في هذا السياق. ويشير الباحثون إلى أسباب الانتحار العديدة، التي تشمل: طول وشدة المعارك والتوتر والصدمات النفسية والعاهات الجسدية.

تشير سافيل إلى أن السكان الفقراء هم الأكثر تضررا، نتيجة لتوسع الفقر وانعدام الأمن الغذائي والتلوث البيئي وتدمير البنية التحتية العامة والممتلكات الخاصة، وتأثيرات العنف المستمرة والصادمة. وتسلط الدراسة الضوء على العديد من العواقب طويلة المدى والتي يتم التقليل من تأثيرها على صحة الإنسان، مؤكدة أن النساء والأطفال في البلدان التي تتحول الى ساحات للحروب هم الأكثر تضرراً جراء سيادة البؤس. وكانت دراسة سابقة أجراها الباحثون عام 2012 قد توصلت الى أن أكثر من نصف الأطفال المولودين في مدينة الفلوجة العراقية بين عامي 2007 - 2010 يعانون من تشوهات خلقية. ومن بين النساء الحوامل اللواتي شملهن استطلاع الدراسة، عانى أكثر من 45 في المائة منهن من الإجهاض، حتى بعد عامين من الهجمات الأمريكية على المدينة في عام 2004.

وتشير سافيل الى أن كل هذه "التكاليف البشرية للحرب" ليست معروفة للأمريكيين بما فيه الكفاية، ليفكروا فيها مليا. وان الأرقام الرسمية الواردة من واشنطن، وخاصة بشأن الخسائر المدنية، غالبًا ما تكون أقل بكثير مما تعكسه التقارير المحلية.

وخلص الباحثون إلى أن: حكومة الولايات المتحدة، التي أنفقت أكثر من 8 تريليونات دولار على هذه الحروب منذ عام 2001، "ليست وحدها المسؤولة عن الأضرار، بل عليها التزام كبير بالاستثمار في المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار".

واضح ان الدراسة لا تتناول الكوارث الاقتصادية والسياسية وتدمير الثقافة في العراق، ولا الخسائر المادية الأخرى، جراء الغزو ونظام الدولة الفاشلة الذي جاء نتيجة له.

نشرت لأول مرة في جريدة المدى في 26 تموز 2023

عرض مقالات: