كان الحزب الشيوعي النمساوي، أحد ثلاثة أحزاب أسسوا الجمهورية النمساوية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعدها عانى الحزب كثيرا في عقود الحرب الباردة، وعده المنافسون والخصوم من الأحزاب الصغيرة في النمسا، ولكن الحزب حافظ على موقعه، كممثل حقيقي لقوى اليسار الجذري، بعد أن اتجه الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر إلى مواقع يمينية. وتبنى الحزب رؤية فكرية وسياسية منفتحة للماركسية، قائمة على الالتزام بجوهرها الثوري، وقراءة موضوعية لمجمل المتغيرات، التي عاشتها حركة اليسار بعد غياب الاتحاد السوفيتي ومنظومة البلدان الاشتراكية في شرق أوربا. ويعتبر النجاح الحالي الثاني بعد دخول الحزب برلمان ولاية ستيريا، (شتايرمارك) بالإضافة إلى ذلك يقود الشيوعيون التحالف الحاكم في مدينة غراتس عاصمة الولاية، بعد ان حصلوا في انتخابات عام 2021، على 29 في المائة، وهي نتيجة فاجأت الجميع. جرب الحزب في العقود الأخيرة أشكالا من التحالفات اليسارية، وراكم مصداقية في الالتزام ببرنامجه المعلن، وأصبحت تجربة الشيوعيين في بلدية غراتس مثالا يحتذى به، وشكلت معينا لرفاقهم في ولاية سالزبورغ في الانتخابات الحالية. والحزب عضو في حزب اليسار الأوربي، وقد انتخب رئيسه الأسبق فالتر باير رئيسا لحزب اليسار الأوربي، في مؤتمر الحزب الذي عقد أخيرا. واليوم يعود الحزب الشيوعي النمساوي إلى برلمان الولاية بعد ان غادره في عام 1949، وحقق الحزب، الذي خاض الانتخابات التي جرت أواخر نيسان 2023، بقائمة حملت اسم “الحزب الشيوعي النمساوي +”، والتي ضمت شبيبة الخضر المنشقة عن حزبها الأم، نجاحا انتخابيا تاريخيا، بحصوله على 11,7 في المائة، مقابل 0,4 في المائة في انتخابات 2018. وسيشغل الحزب 5 مقاعد في برلمان الولاية الجديد. وحقق الحزب أفضل نتائجه في عاصمة الولاية حيث شغل، بفارق قليل الموقع الثاني بحصوله على 22 في المائة تقريبا.

في حوار أجرته معها جريدة نويس دويجلاند في الأول من تموز الحالي، تناولت عمدة مدينة غراتس ثاني أكبر مدن النمسا، الشيوعية الكا كار عن كيفية تحقيق الشيوعيين انتصار في بلد يسوده اليمين، وفي فترة تاريخية تشهد صعودا لليمين المتطرف وتراجعا لليسار في معظم البلدان الأوربية.

علاقة لصيقة بهموم الناس

 نشطت إلك كهر (62 عامًا) في مجال السياسة المحلية في مدينة غراتس طوال حياتها. تقول إنها قريبة جدًا من الناس هناك. عام 1983 انتمت الى صفوف الحزب الشيوعي النمساوي. وعملت في سنوات (1985 - 2004 عضوة في لجنة المدينة الحزبية. وفي سنوات (2005 - 2017) كانت عضو مجلس بلدية المدينة. وفي هذه الاثناء أصبح الشيوعي النمساوي اقوى حزب في المدينة. منذ 2021، انتخبت كار عمدة لثاني أكبر مدن النمسا. لا زالت تعيش في حي غريس العمالي، أحد احياء مدينة غراتس، الذي ينحدر أكثرية سكانه من بلدان أخرى، وتعتبر كار هذا شيئا رائعا، وتحس بعلاقة وثيقة بالحي وسكانه. وكان هدفها دائمًا القيام بشيء ما حيث تعيش وتعمل. فوجدت انها   في السياسة المحلية تكون أقرب إلى الناس، حيث يمكن تلمس ما تقوم به، ويمكننها  تقديم شيء ملموس في البرلمان المحلي، او الى المواطنين شخصيا وبشكل مباشر.

ولأنها تعيش مثل أي مواطن آخر من ذوي الدخل المتوسط او المنخفض، يمكنها فهم الناس جيدا. وبهذا الصدد تقول: " أنا أيضا أمتلك شقة مستأجرة فقط. أقول ما أفكر به وأحاول أن أكون صادقة مع الناس، يشعر الناس بذلك. وليس لديهم شعور بأن الذي امامهم موظف حكومي أو سياسي، بل مجرد إنسان. الناس يقولون لي ذلك بأنفسهم. وأعتقد أن هذا يخلق الثقة في السياسة أيضًا، ويمكن القيام بالأشياء بشكل مختلف". لقد أدى هذا الى عودة الكثيرين من مثقفي الفئات الوسطى الى المشاركة في التصويت، بعد ان قاطعوا الانتخابات بسبب الفساد، وكان هذا ملحوظًا بالفعل في عام 2017.

ان للممارسة العملية علاقة مباشرة بهذا التطور، يحدث أحيانا ان ينتظر شخصيات اقتصادية دورهم، لان عمدة المدينة تستمع لمشاكل المواطنين عبر حوارات شخصية. وترى كار ان الامر طبيعي، فالجميع يستطيعون الحصول على موعد. وان على عمدة المدينة ان يكون حاضرا من أجل الجميع.  وان هناك اهتماما جديا برجال الاعمال والمشاكل والقضايا التي يطرحونها).  ومن الضروري توفر المعرفة واكتسابها في جميع المجالات وجميع الأوساط والمجموعات الاجتماعية. على عمدة المدينة معرفة المدينة من الداخل والخارج. وبالطبع تحديد الأولويات حسب أهميتها، فاذا فقد أحد المواطنين سكنه، فله الأولوية على مواطنه الآخر الذي يرغب في تقديم مشروعه وهذا تفضيل منطقي.

بين المعارضة والحكومة

كان الحزب لا يشارك في التحالف الحاكم في المدينة، وعندما يطرح السؤال، يكون الرد، يفضل الشيوعيون حتى لو كانوا القوة الثانية في المجلس ، ان يشكلوا معارضة قوية بدلاً من  الاشتراك  في الحكومة، حيث يتعين عليهم دخول لعبة المساومات.  لكن الأمر مختلف الآن لأن سكان المدينة أرادوا تغيير المسار، بعد ان صوتوا طيلة 18 عاما لصالح حزب الشعب اليميني المحافظ. والشيوعيون الآن أصبحوا الحزب الأول في مجلس المدينة، وهناك فرق بين أن نصبح أقوى حزب اوثاني أو الثالث.

 

ملف الإسكان

 لقد كان الحزب الشيوعي النمساوي، منذ عقود، حزب سياسة الإسكان في المدينة بامتياز. المواطنون الذين( الذين لديهم )  مشاكل سكن يتوجهون الى للحزب. وشكل الحزب هيئة إدارية للإسكان، وتم بناء أكثر من 1500 مسكن محلي. والحزب يتبنى خطة لبناء ألف شقة أخرى.  ويجري العمل في المشروع خطوة بخطوة. ويطالب الحزب بان يتضمن القانون الاتحادي الجديد للإيجار، عقود ايجار مفتوحة، وان يحدد سقف اعلى للإيجار.

العمل البرلماني وتعبئة الشارع

يعتمد الحزب في حال عدم توفر اغلبية في المجلس البلدي لحل المشاكل المهمة، على النشاط خارج البرلمان وتعبئة الشارع، عبر تنظيم استفتاءات ومبادرات بموجب قانون حقوق الشعب والعمل معًا وبالتحالف مع السكان.  وهذه السياسية محورية بالنسبة للحزب في جميع المراحل، سواء كان الحزب يملك عضوا واحدا   في المجلس البلدي، أو أصبح الآن أقوى حزب فيه. أهم تحالف دائمًا، هو التحالف مع السكان.

في مواجهة عمليات الاخلاء القسري للمساكن او عمليات وضع اليد من قبل حكومة الولاية على أراض زراعية او سكنية،، وفي حال عدم النجاح عبر الإجراءات الإدارية او قرارات مجلس البلدية، يكون استفتاء السكان أنجع السبل. لأنه الطريقة الوحيدة المتبقية لتغيير الأمور.

راتب عامل فني

رسميا يبلغ الراتب الشهري لعمدة   المدينة 8300 يورو، تتقاضى منه الكا كار الفي يورو فقط، وتساهم بالمتبقي وهو الأكثر في الصندوق الاجتماعي. يرى البعض في هذا عملا خيريا لا علاقة له بالسياسة، في حين ترى كار ان السياسة في هذه الحالة هي المساعدة الملموسة للمحتاجين، الذين لا يكفي دخلهم الشهري لتغطية نفقات الايجار ومدارس الأطفال وامور أخرى. لقد تبرعت عمدة المدينة، منذ ان أصبحت عضوة في مجلس المدينة، و حتى نهاية عام 2022 بأكثر من مليون يورو، وفق الالتزام المعمول به في الحزب الشيوعي،  يحتفظ موظفو الدرجات الخاصة من أعضائه ، بما يعادل راتب عامل  فني، ويقدمون البقية كمساهمة في الصندوق الاجتماعي. كان بإمكان الكا كار ان تشتري بهذا المبلغ قصرا فخما، ولكنها لا تحتاج له. وتؤكد ان الرفاهية الزائدة او الانتفاع من الامتيازات، تفقد المناضل الإحساس بالصعوبات التي يعيشها الأخرون، الذين عليهم تغطية نفقاتهم براتب شهري لا يزيد على 900 يورو. ويمكن الإشارة الى ان حزب العمل البلجيكي يلتزم بهذه القاعدة أيضا. وفي حزب اليسار الألماني يُعتمد مبدأ التبرع الطوعي لصناديق مماثلة.

عنصرية اليمين الشعبوي

يناضل الحزب الشيوعي ضد الخطاب الشعبوي لحزب الشعب النمساوي قوي التأثير، الذي يهدف الى شق وحدة العمال. ويعتمد الحزب حملات التوعية والتثقيف والتواجد بين الناس، وعدم تركهم لليمين الشعبوي.  قد يبدو هذا تبسيطا مفرطا، ولكن لا يجوز ترك العاملين يقعون في فخ الخطاب الديماغوجي العنصري مثل: „عندما يرحل الأجانب، ستكون أفضل حالًا". وعندما يكون الحزب الشيوعي النمساوي قويا، يمكن احتواء تأثير حزب الشعب النمساوي. ولهذا تتحدث عمدة المدينة باستمرار مباشرة للمواطنين بشأن هذه الأسئلة.

ويجري التركيز خلال هذه الحوارات على حقائق بسيطة: أن زميلك في العمل لا يمكن أن يكون خصمك أبدًا. إنه يقوم بنفس العمل مثلك، والفرق في العالم  ليس بين الثقافات ابدا ، بل  بين الذين يملكون والذين يعتمدون على عملهم. والناس يفهمون ذلك جيدا. وفي سياق الصراع مع اليمين الشعبوي يتعرض الشيوعيون وعمدة المدينة الى حملات ظالمة، تقوم على الأكاذيب مثل "تخصيص المساكن للأجانب فقط".

وترى كار ان الرد على هذه الحملات يتجسد في عدم الانسحاب من المواجهة، والسعي لحوار أوسع وأعمق مع الناس، وعندما يقتنعون بانك لا تفرق بينهم، وان هذا هو نهجك، منذ عقود، يكونون عندها أكثر قابلية لمواجهة الأكاذيب والحجج الأخرى. يجب أن يثقوا بك أولاً كسياسي. وإذا كان بإمكانك فعل ذلك، فيمكنك أيضًا التحدث عن قضايا برنامجيه كبيرة مثل خفض ساعات العمل والهجرة، لأنهم يثقون بمصداقيتك، وان هدفك الدائم هو حياة أفضل للعاملين.

النجاح ومواجهة النقد

ما يؤسف له قيام بعض الأحزاب الشيوعية المصابة بالجمود الفكري بتوجيه النقد من منطلقات أيدولوجية لا علاقة لها بفهم نبض الحياة المتجدد. ويبدو ان الكا كار غير مهتمة بذلك، فهي تقول: " نحن شيوعيون ولا نختبئ وراء أي صيغة أو عبارات يسارية. هدفنا هو تحقيق الاشتراكية في بلادنا. وهذا مثبت في برنامجنا. أقول ذلك بصفتي عمدة. لكن هذا يتطلب تحقيق توازن قوى. وعلينا العمل على ذلك. يرى الكثيرون أنفسهم على أنهم يساريون. حاليا، هناك يسار من رواد الحرب في ألمانيا. وهناك الكثير من الجماعات اليسارية المتشظية التي لا يتعدى نشاطها الحديث، وهذا لا يكفي بالنسبة لي. هذا لا يثير اهتمامي على الإطلاق. وأنا آسف إذا قلت ذلك على هذا النحو".

وبشأن معاداة الشيوعية، فالأمر يعود للناخب نفسه، لا يمكن أقناع معاد  للشيوعية وليس له تجربة مع الحزب الشيوعي في المدينة. ولكن عمل الشيوعيين الملموس، نجح في اقناع أوساط رافضة للشيوعية بالتصويت لصالح الحزب.

*- نشرت المادة اول مرة في العدد 168 في مجلة الشرارة النجفية تموز 2023  

عرض مقالات: