أطلعت على مقال مايكل روبرتس: بنك فيرست ريبابليك: جدل من أجل الملكية العامة، والمترجم من قبل الزميل مصباح كمال[1].

بدءاً أقيم عاليا جهود زميلنا مصباح كمال في ترجمة العديد من المقالات الاقتصادية المتنوعة من الإنكليزية الى العربية، وتوفيرها للقراء المعنيين والمختصين في حقل الاقتصاد، بهدف الاطلاع والاستفادة منها وتوسيع الحوارات حول مواضيعها.  نشد على أيديه لمزيد من العطاء المثمر والنجاح المتواصل.

في ادناه مداخلتي المتواضعة على الموضوع، كالاتي:

  1. 1. كما هو معروف فإن النموذج الاقتصادي القائم اليوم في الولايات المتحدة الامريكية ومعظم البلدان الاوربية، يستند على آيديولوجية "اللبرالية الجديدة"، معتمداً على اقتصاد السوق والخصخصة، واضعاف و/أو ابعاد دور الدولة عن النشاط الاقتصادي. لقد اصبحت البنية الاقتصادية في هذه البلدان تنتقل من الاقتصاد الحقيقي: الانتاجي/التشغيلي، الذي يساهم في انتاج القيمة المضافة، الى الاقتصاد المالي الوهمي الذي يعتمد على المضاربات العقارية، والأسهم والسندات، والأوراق المالية، كما يتجسد ذلك من خلال تعاظم دور البنوك وشركات التأمين والمؤسسات المالية في السياسة المالية والنقدية، والذي يساهم في عملية التراكم الرأسمالي، مما يؤدي الى تعميق ظاهرة الاستقطاب الطبقي لصالح الأغنياء وزيادة الفقر على الصعيد العالمي.
  2. 2. وقد ساهم هذا النموذج الاقتصادي الى خلق البلبلة في السياسات الاقتصادية الكلية وأثَّر ذلك على السياسة المالية والنقدية، كما حدث في حينه في الازمة المالية العالمية في أيلول 2008 التي أدت الى افلاس واغلاق العديد من المؤسسات المالية الأمريكية والأوروبية وكبريات البنوك، منها بنك (Washington Mutual) للادخار، وعدد من شركات التأمين في الولايات المتحدة التي لجأت إلى "تأميم" هذه الشركات لحماية حقوق المؤمن لهم، وكان أشهرها شركة أي آي جي American International Group (AIG). واليوم نشهد تكرر نفس الحالة تقريباً كما يلاحظ ذلك فيما يحدث في القطاع المالي لهذه الاقتصادات من انهيار وافلاس البنوك في الولايات المتحدة الامريكية (بنك سيلكون فالي SVB، وبنك سيغنيتشر Signature، وبنك فبرست ريبابليك First Republik Bank)، كذلك بنك (كريدي سويسCredit Suisse ) السويسري، بنك (دويتش) الألماني، و (سوسيتيه جنرال) الفرنسي وغيرها، ودخول اقتصاداتها في طور التباطؤ والركود النسبي في الإنتاج مما يسبب تراجعاً في مداخيل العمال وارتفاعاً في معدلات البطالة، ومزيداً من الهشاشة الاجتماعية وتعميق الفقر، وتصاعداً كبيراً في نسبة التضخم مع تراجع في النمو الاقتصادي. وفي سيرورة تطور الاقتصاد الرأسمالي نجد هناك التناقضات في عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي، بسبب تعاقب مراحل النمو والتباطؤ السريعين في مراحل الإنتاج، مما يؤدي الى بروز الازمات، وذلك لعدم توافق الطابع الاجتماعي للإنتاج مع الملكية الخاصة للرأسمال.
  3. 3. من المتعارف عليه، بأن قياس المركز المالي للبنوك وشركات التأمين، ومدى قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه طلبات عملائها، تعتمد بدرجة كبيرة على قيمة السيولة النقدية المتوفرة لدى هذه المؤسسات المالية. لذا نجد عادة أن حسابات الأصول المتداولة وخاصة السيولة النقدية منها تُعرض اولاً، ثم تليها حسابات الأصول الثابتة في التقرير المالي للميزانية العمومية لهذه المؤسسات، وذلك لسهولة تحويل هذه الموجودات الى النقد عند الطلب والحاجة، بينما الموجودات الثابتة تتطلب وقتاً أطول لتحويلها الى النقد.
  4. 4. انعدام التنظيم والرقابة الجيدين على السيولة النقدية في البنوك وشركات التأمين من الحكومات، تُعد من الأسباب المهمة والاساسية في افلاس هذه الشركات. ان ما حصل للبنوك الامريكية والاوربية المشار اليها آنفا من إفلاس وإغلاق، كانت لأسباب: مساهمتها في اقتراض الشركات لتمويل استثماراتها المتنوعة من دون ضمانات قوية لاسترجاعها، واستثمارات في شراء سندات الدين الحكومي، وشراء حصص من الشركات، وتمويل العمليات الجارية للمشاريع، وتقديم خدمات مصرفية للشركات الناشئة، وغيرها.
  5. 5. يشهد اليوم الاقتصاد الامريكي ومعظم الدول الاوربية ارتفاعاً في معدلات التضخم المالي، الناتجة بسبب ارتفاع تكاليف عناصر الإنتاج: الاجور، المستلزمات السلعية، المستلزمات الخدمية (التضخم المسبب بالتكاليف)، وكذلك عرض كميات كبيرة من النقود في التداول من قبل الحكومات والبنوك والمؤسسات المالية لتمويل مشاريع استثمارية، مما يؤدي الى الزيادة في المستوى العام للأسعار (تضخم بسبب الكتلة النقدية في التداول). ففي هذه الحالة التجأت البنوك المركزية الى رفع أسعار الفائدة عدة مرات بهدف امتصاص الكتلة النقدية الفائضة التي تؤثر في انخفاض الطلب على شراء السلع وكذلك في انخفاض أسعار بيعها. لقد التجأت هذه البنوك، التي سبق وان استثمرت أموالها في شراء سندات الدين الحكومي بفائدة اقل من الفائدة الحالية مع انخفاض قيمتها، الى بيع هذه السندات بخسارة، بهدف شراء سندات جديدة بفائدة عالية، في الوقت الذي انخفض ايضا أسعار أسهمها في بورصات الأوراق المالية، مما أدى ذلك الى فقدان ثقة العملاء بهذه البنوك ومراجعتهم لها لسحب ودائعهم منها في وقت واحد، في الوقت الذي عجزت هذه البنوك عن الوفاء بالتزاماتها لتغطية جميع عمليات السحب تلك، وذلك بسبب النقص في السيولة النقدية، وبالتالي الاعلان عن افلاسها.
  6. 6. ختاما، وكما يقول كاتب المقال المترجم، فإن الحكومات تضطر إلى التدخل لإنقاذ هذه البنوك، وتعويض المساهمين وحاملي السندات عن جزء من خسائرها التي تتحملها المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC)، وهي هيئة عامة تمول من مساهمات تُستوفى من جميع البنوك. إن ضرورة إعادة هيكلتها كبنوك عامة بعد تأميمها ستوفر لها فرصة تحقيق الارباح للحكومات مستقبلا. أتفق مع هذا الطرح.
  7. 7. تتكرر هذه الازمات في الاقتصاد الرأسمالي المعولم بين حين واخر، ما لم يوضع حد للتباعد المتزايد ما بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد (الافتراضي) لصالح الاول، عبر تنظيم وتشديد الرقابة من الحكومات والمزيد من الشفافية والافصاح على عمل البنوك والمؤسسات المالية المعنية بالسياسة المالية والنقدية في الدول التي تتبع "اللبرالية الجديدة" كنموذج لسياستها الاقتصادية.

. مايكل روبرتس- بنك فيرست ريبابليك- جدل من أجل الملكية العامة1

* باحث أكاديمي وكاتب اقتصادي/علوم المحاسبة الدولية

** المقال منشور على موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، بتاريخ 30 / 05 / 2023

[1] موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين مايكل-روبرتس-بنك-فيرست-ريبابليك-جدل-من-أجل-الملكية-العامة.pdf (iraqieconomists.net)

عرض مقالات: