غداة مقتل الإعلامية الروسية، ماريا دوغين، في تفجير سيارة والدها التي كانت تقودها بمفردها دون مرافق، وذلك  في آب / أغسطس الماضي، سلطت وسائل الإعلام العالمية، والغربية منها بوجه خاص، الأضواء مجدداً على شخصية " الفيلسوف" الروسي الكسندر دوغين، والذي كان هو المستهدف من التفجير، حيث أرجعت وسائل الإعلام الغربية ذلك لما له من تأثير هائل على سياسات الرئيس فلا ديمير بوتين، وبضمنها  قراره بشن الحرب على أوكرانيا، ولطالما رددت وسائل الأعلام الغربية بأن دوغين هو بمثابة عقل الرئيس فلاديمير بوتين في صنع القرارات ورسم  السياسات المهمة للقيادة الروسية، وأن دوغين هو من خطط لبوتين مشروع استرداد أوكرانيا لروسيا، ولو تطلب الأمر بالقوة العسكرية. ولم يكن دوغين في واقع الحال- بأفكاره القومية المتطرفة- بعيداً عن فكرة غزو أوكرانيا أو التلميح غير المباشر إليها في جُل كتاباته وتصريحاته الإعلامية، لكن هذه الفكرة إنما كانت تختمر في عقل  بوتين منذ رئاسته الأولى مطلع الألفية، وإن كان ما اُنجز حتى الآن لا يرقى للأهداف العسكرية الروسية التي أعلنها بوتين عشية مغامرته، بل ثمة بوادر على أن روسيا ظهرت عليها أمارات الإنهاك جراء إطالة أمد الحرب التي أسماها رئيسها  " العملية الخاصة" منذ أن بدأها في شباط الماضي،  دع عنك خسارتها بعض المواقع، ناهيك تأثير العقوبات الغربية والمشددة بنسبة أو اخرى. 

على أن دوغين، وإن تبنى أفكاراً قومية متشددة غير واقعية، وتلقى قبولاً وتماهياً مع أفكار وطموحات رئيسه الجامحة باستعادة رفعة الامبراطورية القيصرية التي تشكل تقريباً مساحة الاتحاد السوفييتي السابق، فإنه من الصعوبة بمكان القول بأن هذا الأخير قد أتخذه مستشاراً رسمياً له، لا بل أن دوغين نفسه نفى في العديد من المقابلات الإعلامية التي اُجرتها معه قنوات عربية (الجزيرة خصوصاً) بأنه مستشار الرئيس. 

مهما يكن فإن "الفيلسوف" دوغين، الذي يظهر بوضوح في تلك الحوارات مزهواً بذاته، كما بعبقرتيه الفكرية الفذة، يرى في نفسه مفكراً ومنظراً عظيماً كبيراً لفلسفة جديدة يبشر بها لتتبناها  بلاده  في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، كبديل عن الفلسفة الماركسية التي قام عليها النظام الاشتراكي السابق، ويطلق عليها " النظرية الرابعة"، ويراها ملائمة تماماً للشعب الروسي وبديلة عن النظريات الثلاث: الشيوعية والفاشية القومية والليبرالية، واللاتي تصارعت -كما يقول - طوال القرن العشرين، وأن التحالف الليبرالي- الشيوعي أنتصر في الحرب العالمية الثانية-على حد تعبيره- ثم يضيف : وبما أن الليبرالية انتصرت على الشيوعية عند أواخر القرن الماضي، فإن العالم بات يعيش الآن في ظل أيديولوجية واحدة هي الليبرالية، يُراد فرضها على كل الدول التي لم تتبناها بحذافيرها ، وهي أيديولوجية استعمارية لا تلائم قيم وتقاليد وأفكار شعبنا الروسي الأرثوذكسية، بما في ذلك قيمه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي اُضيف إليها مؤخراً الدفاع عن حق "المثليين".  كما يرى دوغين أنه إذا ما أرادت أية دولة متضررة من النظام العالمي الحالي الأحادي القطبية الذي تتربع على قمته الولايات المتحدة، ينبغي عليها أن تتشبث بنموذجها الحضاري الخاص المستقل، وعلى هذه الحضارات المستقلة أن تتكاتف لمواجهة الحضارة الغربية التي تحاول عنوةً تصدير قيمها للعالم. 

 على أن المفارقة غير الواقعية في بنية الفلسفة الدوغينية، أو فيما أسماها "نظريته الرابعة"، إنما تكمن في أوهام نزعتها التوسعية المستترة بشعار ما أطلق عليه "الفضاء الأوراسي"، ويُقصد به فضاء بلدان " المنظومة الاشتراكية" السابقة وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. 

كما يرى دوغين أيضاً أن بلدان هذا الفضاء مهيئة جميعها للتكتل تحت القيادة الروسية من جديد في ظل أنظمتها الرأسمالية الحالية، وليس كما كانت سابقاً في ظل الأنظمة الاشتراكية الماركسية، وبالتالي فإنه يمكن لروسيا أن تقود "دول الفضاء الأوراسي" تحت راية أفكار فلسفته الجديدة والتي يعتبرها بمثابة خشبة الخلاص لنهوض روسيا مجدداً والدول الأوراسية مجتمعةً. أما كيف سيتحقق ذلك؟ أو كيف ستقتنع أنظمة وشعوب تلك البلدان بمشروع هذه الوحدة الجديد وتنخرط فيه طواعيةً؟ فهذا مالا يجيب عليه الفيلسوف دوغين، لا في مؤلفاته التي بسط فيها نظريته، ولا فيما اُجري معه من حوارات إعلامية صحفية وتلفزيونية، بل لا يبدو مكترثاً أصلاً بتقديم مبررات موضوعية تُقنع من يساجله في هذا المشروع والفلسفة التي يرتكز عليها! 

ودوغين لا يخفي أيضاً استخفافه بأحقية أوكرانيا في نيل استقلالها عن روسيا، وهو الاستقلال الذي فرضته -كما نعلم- ظروف وتوازنات جديدة جيوسياسية على الساحة الاُوربية بعد فشل الاتحاد السوفييتي في تلافي الانهيار، ويصعب في المرحلة الآنية تخطيها بسهولة، سيما في ظل النظام الرأسمالي الحالي الذي تتبناه كلتا الدولتين المتحاربتين. والغريب أن دوغين بُعيد فترة قصيرة من انطلاق مغامرة الرئيس بوتين العسكرية في أوكرانيا في شباط الماضي، أعرب عن إيمانه القوي بانتصار بلاده المحتوم، وأن الهزيمة - حسب زعمه - غير واردة البتة، وأن روسيا ستقاتل فيها حتى الرمق الأخير، ملمحاً باستخدامها السلاح النووي؛ إذا ما هُوجمنا به -على حد تعبيره- من قِبل " الناتو"!  مضيفاً: "إن وجود البشرية بدون روسيا قوية ذات سيادة أمر محال". ولعل الرثاء الذي عبّر عنه غداة مقتل ابنته ماريا إنما يعكس فكره المشبع بالعظمة القومية الروسية: " لا تتوق قلوبنا إلى الثائر أو الانتقام، وهذا تافه تماماً وغير روسي للغاية، إننا بحاجة إلى انتصارنا، فعلى مذبح النصر ضحت طفلتي بحياتها". 

ولعل من تابع بتمعن خطاب الرئيس بوتين في نهاية أيلول الماضي بمناسبة إعلانه ضم الأقاليم الأوكرانية الأربع، دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابورحيا، إلى روسيا لمس بوضوح ما يعبّر عنه الخطاب في الكثير من فقراته عن روح "الفلسفة الدوغينية". وهكذا فبدلاً من أن يتبنى فيلسوف روسيا الجديد دوغين -على الأقل- أفضل ما في الليبرالية والاشتراكية من قيم إنسانية في الحرية والمساواة الاجتماعية، وجدناه يروّج لفلسفة بائسة من الأفكار القومية الشوفينية، هي أبعد ما تحتاج إليها روسيا اليوم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بل وأبعد من أن تكون جاذبة لشعوب جمهورياته السابقة وفضائه" الأوراسي"! أكثر من ذلك فإن دوغين لا يخفي تعاطفه مع النظام القيصري السابق، رغم كل ما جلبه من كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية لحقت بالشعب الروسي وشعوب الإمبراطورية القيصرية كافة طوال قرون، ولم تتخلص هذه الشعوب من هذا النظام الاستبدادي الفاسد إلا بفضل ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917، التي جنت شعوبها تحت رايتها منجزات عظيمة ، وسرعان ما ندمت على فقدانها بعد ما خدعتها الثورات المضادة المدعومة من الإمبريالية الأمريكية وحليفاتها ببحبوحة الاقتصاد الرأسمالي الحر ومزايا حرياته السياسية، مستغلة في ذلك الأخطاء المتراكمة التي وقعت فيها الأنظمة الاشتراكية على مدى عقود . 

والمضحك المبكي أن دوغين لا يجد غضاضةً في اعتزازه بالدولة القيصرية التاريخية، جنباً إلى جنب مع تباهيه بأمجاد الاتحاد السوفييتي العسكرية، رغم نقده الشديد للأيديولوجية الشيوعية التي يبناها نظامه. وهو لا يتورع عن تأييده الصريح لإقامة نظام شمولي دكتاتوري في روسيا حتى لو أجرى رئيسها بوتين تعديلاً على دستورها يمنحه حق الترشح في الانتخابات الرئاسية والفوز فيها مدى بقائه على الحياة، كما صرح به غير مرة في لبعض الفضائيات العربية! 

 والحال أن نظرية دوغين إن هي إلا توليفة سطحية مزيجة من الأفكار والشعارات القومية والدينية، ولا يمكن اعتبارها منهاجاً صالجاً لإقامة حياة سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة سليمة ذات آفاق واعدة لنهوض روسيا من كبوتها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي .بيد أن فلسفة دوغين تُذكرنا تاريخياً بالفلسفة التي نظّرها في أربعينات القرن التاسع عشر بيير جوزيف برودون، والتي كانت تركيبة من الأفكار الاشتراكية الفوضوية المتناقضة وذات الطابع اليوتويوبي غير القابلة للتحقيق على أرض الواقع، ومع ذلك فقد كانت في زمانها أكثر تطور نسبيا، من نظرية دوغين الجديدة. وقد صاغها برودون بوجه خاص في كتابه "فلسفة البؤس" وكذلك في مؤلفه” خلق النظام في البشرية". وبالتالي فقد كان برودون مقارنة بدوغين يدعو -على الأقل- إلى نظرية تحقق شيئاً من العدالة الاجتماعية من خلال اشتراكية ترتكز على الملكية الصغيرة للطبقات الوسطى، كما كان يدعو إلى تطمير الدولة مقدماً، كشرط لأي إصلاح اجتماعي حقيقي. 

لكن مؤسس نظرية الاشتراكية العلمية ومفكرها الأول كارل ماركس تصدى بقوة لتلك الفلسفة البائسة مقوّضاً بناءها الفكري الهش الذي تقوم عليه أفكار برودون في كتابه " بؤس الفلسفة" حيث رد عليه ماركس في كتابه الهام” بؤس الفلسفة"، وربما لولا عناية ماركس بالرد على ذلك الكتاب لما كان لمؤلفه برودون ذكر اللهم عابر في تراث الفكر الإنساني المعاصر. لكن الفارق بين دوغين وبرودون، أنه في حين أن هذا الأخير تبنى على الأقل جملةً من الأفكار الاشتراكية الطوباوية المشوشة غير القابلة لتشييد نظام حقيقي راسخ للاشتراكية على اُسس علمية متينة،  كالاشتراكية التي أسسها ماركس وعُرفت لاحقا بالماركسية ،إلا أنها لقيت حظوظاً ما في تقبلها لدى بعض الشباب الفرنسي والأوروبي المغرر بهم، وكانت حافزاً لمؤسس النظرية الاشتراكية العلمية نفسه -كارل ماركس- على تأليف واحد من أهم أعماله الفكرية التي مازالت مفيدة حتى عصرنا الراهن، في حين أن دوغين لا يعبّر في فلسفته عن معاداته الصريحة للاشتراكية فحسب، بل ولمجمل ما وصلت إليه فكر الحضارة العالمية الإنسانية من تطور في منظومة القيم السياسية الخُلقية ومبادئ حقوق الإنسان، والتي هي من حيث المبدأ نتاج وبلورة لمزيج حضاري تاريخي خام مشترك لقيم الحضارات الإنسانية، لا الغربية فقط، بل ولم تكن صياغة العديد منها بعيداً منها -كما ظهرت في إعلان حقوق الإنسان ونصوص ومواثيق الاتفاقيات الدولية ذات الشأن- بعيدة عن تأثير إشعاعات الفكر الاشتراكي عالميا في ظل المباراة والمعترك الفكري التاريخي بين الرأسمالية والاشتراكية والذي تفجر بوجه خاص في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالتالي لا  يمكن للغرب الرأسمالي الزعم بأن تلك القيم والمباديء الإنسانية الديمقراطية والاجتماعية التي تمت بلورتها دولياً هي  من صميم لبنات أفكاره وأيديولوجيته وحده فقط. عدا ذلك فإن الرأسمالية نفسها لطالما ضربت هذه الشعارات والقيم الإنسانية التي تدعي احتكارها بعرض الحائط، سيما ذات مضامين العدالة الاجتماعية.

 والحق فإن ما تحتاج إليه روسيا اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومعها في ذلك جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق والمنظومة الاشتراكية السابقة، والتي أطلق عليها دوغين " الفضاء الأوراسي".. نقول إن ما تحتاج إليه هذه البلدان مجتمعةً مشروعاً مجدداً للفكر الاشتراكي، بحيث يستفيد من الأخطاء التي وقعت فيها تلك البلدان، وبعضها ترقى للأخطاء القاتلة، ويأخذ بعين الاعتبار أيضاً ما مر به عصرنا من تطورات ومستجدات هائلة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي والتي لا يمكن القفز عليها. 

إن هذا المشروع الفكري الجديد، لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن رسم طريق نضالي طويل واضح المعالم، يضطلع بانتهاجه الشيوعيون، وقادر على حشد كل القوى اليسارية، وسائر القوى الديمقراطية والوطنية التي لها مصلحة في تغيير الأنظمة الرأسمالية الكارثية الاستبدادية الفاسدة الحالية التي نُكبت بها شعوبها.

 

عرض مقالات: