منذ أكثر من ثلاثة أسابيع تستمر الإضرابات العمالية في فرنسا، خصوصاً في قطاع النفط؛ احتجاجا على غلاء المعيشة وتدني الاُجور، وقد بلغت ذروتها الثلاثاء الماضي تحت  شعار "يوم التعبئة والإضراب" لتشمل عمال وموظفي قطاعات اخرى، كالنقل والتعليم  والصحة غيرها، وهذه الإضرابات التي دعت إليها النقابات العمالية الرئيسية الكبرى في البلاد، تتم بدعم من القوى اليسارية المؤتلفة في" الاتحاد البيئي والاجتماعي الجديد" وفي مقدمة المضربين والمحتجين عمال شركة" توتال إينرجيز"، ما دفع الحكومة اليمينية ذات الأغلبية البرلمانية الهشة، بقيادة رئيستها اليزابيت بورن، إلى التهديد باللجوء إلى القوة لإرغام المضربين على العودة إلى أعمالهم، وهو ما فعلته في الثاني عشر من تشرين الجاري، الأمر الذي دفع قادة الإضراب إلى الطعن قضائيا في هذا الأجراء الذي وصفوه بالمتعسف تجاه حق مكتسب منذ عشرات العقود. 

وإذ تمكن المضربون بفضل صمود إضرابهم الطويل من التوافق مع أصحاب العمل على رفع اُجورهم بنسبة 7% من أصل نسبة 10% كانوا يطالبون بها، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ماذا سيفعل المضربون لو تحققت مطالبهم كاملة أو شبه كاملة ثم تبخرت الزيادة في غضون أشهر؟ وذلك إذا ما استمرت الأسعار في الارتفاع؟ هنا نصل إلى بيت القصيد، ذلك بأن أزمة الوقود، ومعها الأزمة المعيشية والاقتصادية، التي تعصف بالشعب الفرنسي، وخاصة طبقاته الوسطى والدُنيا، إنما هي ناجمة عن تطبيق سياسة أكبر مفروضة عليه من قِبل قمة السلطة الرأسمالية اليمينية الحاكمة، وتٌعرف هذه السياسة ب"النيو ليبرالية"، ومن أبرز مساوئها تخفيض الضرائب لكبار الرأسماليين والمستثمرين، وتخفيض الانفاق العام على التعليم والصحة وسائر الخدمات الاجتماعية العامة، والتوغل في الخصخصة بلا حدود في بعض مؤسسات الخدمات العامة الحكومية  لا يجوز خصخصتها بأي حال من الأحوال . 

والطامة الكبرى حينما يتم الإصرار على تطبيق هذه السياسة الرعناء، في ظل اصرار الطبقة الحاكمة، بقيادة الرئيس أيمانويل ماكرون، على دعم اوكرانيا بالمال والسلاح، والتي ما برحت تخوض حرباً طويلة منهكة مع روسيا، دون مبالاة بما لهذا الدعم السخي من انعكاسات بالغة الخطورة على الداخل في مفاقمة الأزمة الاقتصادية والمعيشية!

ولعل المتمعن جيداً في أبعاد ودلالات الإضرابات الفرنسية سيخرج  بدروس مستفادة، سياسية تاريخية ونقابية، سواء للطبقة العاملة الفرنسية أم للطبقة العاملة العالمية، لكننا سنكتفي هنا بدلاتين عريضتين: 

الدلالة الأولى: إن الإضرابات العمالية الفرنسية والمكاسب التي حققها العمال، ما كانت لتتحقق لولا حركات ونضالات الطبقة العاملة التاريخية في البلدان الرأسمالية منذ أواسط القرن التاسع من جهة، والصراع الأيديولوجي الذي خاضه الأتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية السابقة دولياً وفي المنظمات الدولية ضد الدول الرأسمالية من جهة اخرى، فتحت تأثير هذين العاملين أضطرت الدول الرأسمالية الغربية إلى التسليم بحقي العمل النقابي والإضراب لعمال بلدانها، وكذلك إقرار منظومة التأمينات والحماية الاجتماعية.

 الدلالة الثانية: إن التجربة التاريخية المديدة لحقي التنظيم النقابي والإضرابات، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، بأن مهما تحقق بفضلهما من مكاسب تُنتزع من الرأسماليين، فهي  معرضة للزوال، مالم يتسلح المضربون مسبقاً بالوعي السياسي الطبقي لا النقابي فقط ،ومن هنا تتأتى أهمية ربط النضال الطبقي المطلبي بالنضال السياسي ضد السياسات الرأسمالية اليمينية، على نحو ما أوضحنا آنفاً بأن ثمة مخاوف بأن تتبخر زيادة رفع الاُجور التي يحققها المضربون الفرنسيون، إذا ما أستمرت الأسعار في اطراد الارتفاع خلال فترة قصيرة مع تفاقم الأزمة الرأسمالية الفرنسية . 

وهكذا، فما لم يتم ربط الوعي النقابي بالوعي السياسي الطبقي للتخلص من الحكومة الحالية اليمينية، والنضال الفوري من أجل إيصال حكومة اشتراكية إلى السلطة، تسهم فيها كل القوى الوطنية والديمقراطية الشريفة إلى جانب تنظيمات الخُضر، في إطار جبهة يسارية عريضة صلدة تتبنى برنامجاً مشتركاً ذا إصلاحات جذرية، فإن مكاسب المضربين لن تكون سوى مسكنات وقتية معرضة للزوال.

عرض مقالات: