يقال أن شدة البركان يدركها الناظر عن بعد، أكثر من الذي يعيش وسطه وفي مركزه، ذلك أن الأخير مبتلى بضرورة إيجاد طرق للخلاص من بلواه، والنجاة من الأخطار المحدقة به. وباحتساب مايجري في العراق بساحاته السياسية والأمنية والإدارية بركانا، سأتخذ موقع الناظر من بعيد على مركزه، لعلي أصيب في قراءتي للموقف وتقييمي للحالة، وكما قيل: (الكتاب يبين من عنوانه). أو كما أنشد المتنبي:

خذ مارأيت ودع شيئا سمعت به

                      في طلعة الشمس مايغنيك عن زحل

  إن أول شيء يلوح لي، هو ابتعاد رؤوس الحكم والساسة والمسؤولين في مفاصل البلد، عن العمل لصالح الوطن والمواطن، فالانتماء والولاء ليسا للعراق، وليسا للذين ضمخوا أصابعهم بالحبر البنفسجي، بعد تحديهم كثيرا من التهديدات والمخاطر، فالولاء شطّ بعيدا عن نهج السياسيين، والانتماء يلوِّح بكل جرأة راحلا عنهم، معلنا ان آخر المستفيدين من التغيير المزمع هم العراقيون.

  فقد حرص رؤساء الكتل والأحزاب والتحالفات على دفع مرشحيهم للتشكيلات الوزارية، وفق مقاييس لاتخدم الوزارات ولا المؤسسات ولا الهيئات، إذ دُفعت أسماء المرشحين وفق نظرية الـ (گوتره). كما لم يكن لفقرات الدستور حضور واحترام، لاسيما إزاء المسجلة ضدهم سيرة سيئة في سجلهم الوظيفي، وكذلك المزورين والمتهمين بمواد سبق ان أقر الدستور انها لاتجيز للمدانين بها تسنم مواقع قيادية.

    قبل ربع قرن وأكثر، كان صدام يأتي بالشخص غير المناسب، الذي لايفقه شيئا غير التلفظ بعبارة (نعم سيدي) ويريه من المغريات المادية مالم يكن يحلم بنيلها بتاتا، ليوزره وزارة حساسة تتطلب ممن يستوزرها مواصفات ومؤهلات علمية، ويتمتع بشخصية قيادية، فضلا عن سيرته وسلوكه وتاريخه المهني وحتى الشخصي والعائلي، وبذا يضمن ان الوزارة أخذت طريقها الى الحضيض، حيث يتدنى العمل بمؤسساتها وهيآتها إداريا وانتاجا، فتصبح اسما على غير مسمى، وهذا ماكان يرسم اليه ويخطط له ويعمل كل شيء من أجل تحقيقه. وبسيناريو ساذج يقيل هذا الوزير بعد حين بسبب او من دون سبب، ويأتي بغيره بالمواصفات المتدنية ذاتها، فيكمل مشوار سابقه في صنع الخراب ونشر الفوضى والتخلف ومظاهر الفساد في وزارته. ومن المؤكد أن الحال في التسلسل الهرمي للوزارة، يصبح بفعل وزراء كهؤلاء تسلسلا ليس له اول ولاآخر، فتنتقل عدوى سوء الإدارة الى المديرين العامين فالمعاونين فالمديرين فالموظفين، وهكذا سار الحال الى ان استحال حال البلاد الى رقعة جغرافية على سطح الكرة الأرضية، بعيدة عن مسيرة باقي الأمم في الرقي والبناء والعمران.

  هي تجربة يعيها جيدا كل ساستنا في العراق ويذكرونها بالتفصيل الممل، سواء من ركبوا موجة السلطة وأبحروا في تيار الجاه والسلطان، أم الذين يتطلعون الى نيل مركز مرموق في سدة الحكم، ويسعون الى الوصول اليه بشكل او بآخر!. وباستقراء بسيط لما كان وما سيكون، تتضح مآلات الأمور، ويسهل التخمين في مكانة البلد ووزاراته، وبأي درك ستقبع فيه بعد حين، مادام النهج الذي اتبع سابقا في الاستيزار والتنصيب نهجا محاصصاتيا، ومادام المتسلطون فيه تسلقيين متصيدين في عكر المياه فرصا غير نظيفة، بعد أن تبوأوا مناصب ظنوا أنها تشريف، ونسوا -لاتناسوا- أنها تكليف، فتضحى بالنتيجة مؤسسات الدولة بنايات تخدم الفاسدين وتنفع السارقين، فيما يعم ضررها وشررها العراقيين، وتكون الفأس حينها قد وقعت في الرأس والجذع والأطراف!. وستأتي الأيام تعاد فيها سيناريوهات العقود الماضية كلها، لكن، بشخوص جدد، وأسماء جديدة، وسيولد عراق جديد، فيه يكمل الساسة ما يعمله نظراؤهم اليوم، وستكون -حتما- لبغداد سقوطات جديدة، ونكبات لاتنتهي.

عرض مقالات: