ا

التقيت بالفقيد ابي مخلص اول مرة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، في مكتب مجلة الثقافة الجديدة بساحة التحرير.  وقد كان مكتباً بسيطاً في الدور الثاني او الثالث ( لا اتذكر ) ، في عمارة دون مصعد.  كان المكتب (الذي كان فعلياً اكثر من مجرد مكتب تحرير لمجلة) يضج بالحركة طوال الوقت وخاصة من بعد الظهر، حتى ان العامل المكلف بتقديم واجبات الضيافة ( الشاي)  لايتوقف أبداً عن الذهاب والإياب بين المطبخ وغرف المكتب الثلاث حاملاً معه استكانات الشاي الممتلئة والفارغة. 

هناك التقيت بمجموعة من الشخصيات العراقية البارزة، منهم الدكتور عبد الرحيم عجينة والدكتور مكرم الطالباني، و نوري عبد الرزاق والشاعر الفريد سمعان..  كان ابو مخلص من بينهم بشكل خاص ممن أعطاني انتباهاً ملحوظاً. فقد كان يستمع لي باهتمام بالغ، وكأني املك من المعلومة والمعرفة ما يجعله هو المستفيد من حديثي البسيط، مما أعطاني مزيدا من الثقة في نفسي، وحفزني على تكرار زيارتي لذلك المقر، فتستمر لقاءاتي به وبغيره من القائمين على تحرير المجلة.

بالنسبة لي وانا الشاب الصغير القادم من بيئة مختلفة كانت زياراتي تمر كمر السحاب. فقد كانت ثقافتي وخبرتي ضئيلة لا تعد امام تلك الهامات العملاقة، وهذا ما جعل تلك اللقاءات - متى ما اتيحت لي مع اي منهم - تتحول الى محاضرات” جامعية"، أغنت ثقافتي  ووسعت مداركي  وعرفتني على امور لم يكن متاحا لي  معرفتها وانا في وطني .

من بين هؤلاء كلهم كان لعبد الرزاق الصافي موقع مختلف، فقد كان كالمعلم المهموم بأن احصل على أكبر قدر من الفائدة من درسه قبل ان تنتهي الحصة.  هذا الاهتمام والمودة التي غمرني بها ترك اثره العاطفي العميق علي وجعلني حتى يومي هذا اشعر بالامتنان الكبير له. بعد فترة من الزمن ونتيجة لتدهور الظروف الامنية، لم اعد التقي بذاك" المعلم"، و لم اعد أقابل  في ذاك المكتب الا الدكتور مكرم الطالباني،  وفي بعض الأحيان بالشاعر الفريد سمعان . فقد أصبح ملموساً انخفاض عدد الزوار والوجوه التي كان المكتب يعج بهم في بداية زياراتي

بعد اشهر من البقاء في العراق، وكنت قد التحقت بجامعة بغداد طالباً منتظماً في كلية الادارة والاقتصاد، تم الحاقي بخلية الطلبة العرب في الاتحاد العام لطلبة العراق المكونة مني ( السعودية ) وآخر من البحرين ، وآخر فلسطيني ( حينما كان الشيوعيون الفلسطينيون  ضمن  الحزب الشيوعي الاردني ) وتعذر الاتصال بممثل  الطلبة الشيوعيين السودانيين للانضمام الى هذه الخلية، كما ابلغنا  آنذاك   الصديق العزيز د . مهند البراك الذي كان يقوم بالإشراف على هذه الخلية وينظم تواصلنا   مع الاتحاد. 

بعد مرور ما يقارب النصف قرن يمكنني القول انه وبالرغم من محدودية لقاءاتنا وصعوبة تنظيمها الا انها كانت  ثرية بالنقاش الفكري والسياسي في فترة كانت الساحة الشبابية والطلابية  العربية تشهد نقاشات ومعارك فكرية متنوعة بين مختلف التيارات اليسارية العربية وخاصة المتحولة للفكر الماركسي.

وفي تلك الفترة تعرض الشيوعيون والتقدميون العراقيون لحملة قمع شديدة القسوة من قبل النظام الصدامي ، وكانت الانباء تصلنا دون انقطاع  عن الاعتقالات والتصفية الجسدية في اقبية قصر النهاية  والاغتيال في واضحة النهار  لعشرات الكوادر الشبابية والطلابية، مما اجبر عددا كبيرا من نشطاء الحزب ومنظماته الجماهيرية على الاختباء او الالتحاق بفصائل الانصار في كوردستان او لخارج العراق  تاركين  اسرهم وأعمالهم حفاظاً على ارواحهم  وسلامة تنظيماتهم . وحتى خليتنا الطلابية تأثرت بذلك، حيث استبدل الرفيق مهند البراك برفيق آخر (فهمي) الذي التقيت به في مهرجان الشبيبة في برلين ١٩٧٣.

كان من الطبيعي ان تقل زياراتي لمكتب الثقافة الجديدة، حيث لم يبق في المكتب الا  نفر قليل منهم ، اتذكر بشكل خاص الدكتور مكرم الطالباني والفريد سمعان حيث اقتصرت زياراتي على  نقل الرسائل الشفوية  بين جبهة التحرر الوطني في السعودية والحزب الشيوعي العراقي .

حتى مغادرتي للعراق في صيف ١٩٧١.

   لم تتاح لي الفرصة للالتقاء بأبي مخلص في داخل العراق، الا مرة واحدة  في مقر  الحزب  اثناء فترة الجبهة الوطنية اثناء زيارة عمل للعراق. 

من بعد ١٩٨٣ تم سحب جواز سفري ولم يعد مسموح لي بالسفر. وحينما استرديت جواز سفري في التسعينات، تغيرت الاحوال في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية في اوروبا، ولم تعد تلك الدول ملجأً آمناً للشيوعيين العراقيين المطاردين من قبل النظام الصدامي القمعي.

وبعد اسقاط الامريكان وحلفاءهم للنظام الصدامي، عرفت ان عبد الرزاق الصافي كان من ضمن الكوادر القيادية التي رجعت للعراق، ولكنه لم يعد يشغل مركزاً رسمياً في قيادة الحزب بسبب  التغييرات التي طرأت على الحزب اثر مؤتمراته، وكان ان زار البحرين  ولكن مع الاسف الشديد لم اعلم بزيارته الا متأخرا فلم اتمكن من اللقاء به .

ولكني اتذكر لقاءه مع المذيع احمد منصور في قناة الجزيرة. ذاك اللقاء الذي استغله المذيع ليدير حواراً استفزازيا من طرف واحد، وبدون حيادية المذيع  وبقلة أدب مهاجما الحزب الشيوعي العراقي  وقياداته، حارماً ابي مخلص من التحدث بحرية و بدون اعطاءه الحق   للرد على  أسئلته التي كانت اقرب  للسباب  والتهم    تقطر بمعاداة  للشيوعية ولا تمس للحوار بصلة

لم يتصرف ابو مخلص في ذلك اللقاء التلفزيوني بانفعال أو بعصبية كما كان  يفعل بعض  ضيوف هذا البرنامج، بل حافظ على لباقته  واحترامه لنفسه، ولم ينجر الى استفزازات احمد منصور واظهر نفسه كقيادي واثقاً من نفسه ومن تاريخ حزبه المشرف.

لروح عبد الرزاق الصافي السلام والطمأنينة وله طيب الذكر.