إن الذات العربية تكاد تتآكل من أطرافها رغم محاولات الفئات الواعية والمثقفة لرص الصدع لهذه الذات . إن تهميش الذات العربية يأتي أحياناً من خارجها إبتداءاً بالسلطات المتعاقبة والتي تحكم وتقرر من يموت ومن يحيى ، من يغتني ومن يفتقر وإنتهاءاً بمصالح الإحتكارات العالمية التي تحاول فرض إنتاجها الصناعي والزراعي لقاء النفط والغاز وتحجيم النهضة الصناعية والزراعية المحلية .
إن الحاضنة الأساسية لبؤس الذات العربية هو ذواتنا أنفسها . فالهوس بكل ما هو سلفي ومحاولة إعادة التاريخ بحذافيره هو ما يجعلنا نراوح مكاننا .
إن أوربا الحديثة قد إستفادت من تاريخها الإقتصادي والعلمي والعسكري وتاريخ الحروب العالمية والمحلية لكنها تعدتها بكثير وأطلقت العنان للذات الأوربية لكي تفكر بمعزل عن كل السلطات ، فلا سلطة فوق سلطة العقل وعرفت الكنيسة مكانها كما عرفت المؤسسات العلمية والإقتصادية ، كل يُهرول إلى الأمام ، وإن نظر إلى الخلف فلكي يرى هفواته . لكننا وللعجب نسير إلى الأمام ووجوهنا إلى الخلف ويؤكد ذلك ما حصل في كل المدن العربية ، في القاهرة أو دمشق أو بغداد أو صنعاء أو الموصل .
لو نظرنا إلى المدن التي خرج منها داعش أو لا زال فيها لوجدنا الخراب العقلي والعلمي والإقتصادي يسيران معاً ، فهناك المئات من الأطفال الذين فقدوا عوائلهم وأجزاء من أجسادهم في هذه المدن لا يلتفت أحد إليهم ولا يعوضهم عما فقدوه . شاهدت ذات يوم فيديو قصير لطفل عراقي من مدينة الرمادي كان إسمه ( غيث ) لكنه كان يقفز كعصفور صغير وهو في السابعة من عمره بقدم واحدة ، يتنقل بسرعة وبنشاط طفولي على أرض جرداء لم يمسها الغيث منذ سنوات . كانت الحكومة تفكر ومنذ ٢٠١٥ بأن تهبه ساق صناعية لكي يذهب بها إلى المدرسة لكنها لا زالت تفكر ، ولا عجب في هذا لأن في مدينة الموصل هناك ٤٠٠٠ جثة تحت الأنقاض وحوالي ٢٠٠ ألف مفقود وأكثر من مليوني لاجيء بدون مأوى ، ولا زال هؤلاء أيضاً على لائحة الإنتظار .
حسب تقرير منظمة ( إنقذوا الأطفال ) أن في ٢٠١٧ قد مات في اليمن ٥٠ ألف طفل من الجوع والمرض وأن هناك ١٥ مليون طفل لا يعلمون إن كانوا سيتناولون وجبتهم التالية أم لا ، وأن هناك ٣٥٠ ألف طفل سوري قد قتلوا منذ إندلاع الحرب السورية ، وأن هناك أكثر من نصف مليون قتيل .
لو فتحنا قائمة الإستيرادات العربية من الغرب لوجدنا أن القليل منها هو المعدات الصناعية والزراعية ومصانع الأغذية والتعليب ، لكن الكثير منها هو إستيرادات السلاح ، والسلاح أولاً وآخراً . لقد نشر معهد ستوكهولم لأبحاث السلام إحصائية عن الإنفاق العسكري في العالم وكانت إحدى الدول العربية هي الثالثة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة والصين وهي السعودية ، فقد كان إنفاقها العسكري ٦٩،٤ مليار دولار في العام الماضي ، أما العراق فقد كان ٧،٤ مليار دولار ، أما السودان ٤،٣ مليار دولاد .
إن بنظرة سريعة وبديهية يستطيع القاريء أن يتساءل ، أما كان أولى أن تصرف هذه المليارات لإنشاء المصانع والمزارع الحديثة وأن تُطعم بها الأفواه الجائعة في اليمن وسوريا والعراق والسودان .
إن قيمة حياة الفرد العربي لم تعد تساوي ثمن رصاصة واحدة سواء كان هذا الفرد طفلاً أو عجوزاً حيث يدخل الآلاف من الأطفال في مطحنة الدواعش والحوثيين كجنود قسريين لا يتعدى طولهم أطوال بنادقهم ، وتملأ أفواههم بدل الحليب حبوب الهلوسة فيمشون إلى حتفهم غير عابئين . وقد شمل هذا آلاف النساء فهن ما بين قوانين الموروث الثقافي السلفي أو قوانين داعش والتنظيمات السلفية الأخرى ، فهي تُزوج قسراً وتُجند قسراً وتصبح محضية قسراً . قرأت قبل أيام أن إحدى القاصرات السودانيات قد خُطبت لرجل وهي في السادسة عشرة ثم زُوجت قسراً في التاسعة عشرة ، وقد إستعان الزوج بأقاربه في ليلة الزفاف بمعاشرتها ، وحينما تكرر الأمر قامت الفتاة بقتل هذا الزوج ، وحُكمت بالإعدام شنقاً ، ثم قرأت بعدها بأن شيخاً من شيوخ ( الخلوة ) قد قام بإغتصاب عشرة أطفال ولم يُحكم هذا الشيخ إلا بخمس سنوات ، فهل نجرؤ بعد هذا أن نتحدث عن كرامة الذات العربية ، فنحن لا نقيم وزناً لحياة الفرد ونضع أسباب واهية لإلغاء ذواتنا . وها نحن نحاول إستكشاف المريخ ونبذل الملايين لهذا ونحن لم نتعلم بعد السير على الأرض ، حكمنا على أنفسنا أن نحبو دائماً والعالم يهرول ونُكتف أيدي وأفواه الصحفيين والفنانين والناشطين وكل من ينطق بالحقيقة ، ثم نحلم بعدها بعصور الخلافة الذهبية ، أي شرخ هذا في ذواتنا .