على الرغم من مضي نحو أسبوعين على غزوة حركة طالبان الإرهابية لكابول وإحكام سيطرتها الحديدية على العاصمة الأفغانية وما تبع ذلك من قيامها بفرض ثقافتها الظلامية الواحدة على أهالي المدينة عبر سلسلة من الإجراءات التي مازالت تتوالى، ليس أقلها فرض البرقع على النساء ومسح كل صور المرأة من واجهات الصالونات النسائية والإعلانات التجارية، إلا أن الولايات المتحدة وحلفاءها الاُوربيين ما زالوا عبثاً يعولون على وعود هلامية مخاتلة تصدرها طالبان توهم الغرب بها والعالم بأن ثمة تغييراً طرأ على مواقفها المعهودة من حقوق المرأة ومنحها الحق في التعليم، وأنها أصدرت ضمانات بأن لا تكون الأراضي الأفغانية منطلقاً لأي أعمال عدائية أو إرهابية ضد الغرب وسائر أعضاء الأسرة الدولية، وكذلك ضمان أمن وحماية حرمة السفارات والبعثات الدبلوماسية والبيوت، وتأمل طالبان من هذه الوعود الكاذبة في الحصول على اعتراف سريع من قِبل المجتمع الدولي بها، وهذا كله بطبيعة الحال محض هراء، بل على خلاف الوجه القبيح والأنياب التي كشرت عنها الحركة في كل إجراءاتها حتى يومنا، ناهيك عن فشلها في اكتشاف الانفجار الأخير الذي حدث في محيط المطار قبل ساعات من كتابة هذه السطور وأودى بحياة العديد من الأفغانيين والكشف عن الجهة التي تقف وراءه .

وبموازاة ذلك تقوم العاصمة القطرية الحاضن والراعي الأول لطالبان عبر "جزيرتها" بأخطر عملية تضليل إعلامي من خلال شبكة مراسليها في كابول الذين كانوا على رأس طلائع الإعلاميين الذين رافقوا غزوة الحركة للعاصمة، وأخذت تبث تغطيات ميدانية موسعة على مدار ساعات اليوم عما حققته من انتصارات. ولعل  واحداً من أكثر  تقاريرها الإعلامية مدعاة للاشمئزاز ما أدلى به أحد مراسليها محتفياً بمشهد إقلاع الطائرة العسكرية الأميركية التي تشبث بها عدد من الأفغانيين والذين سرعان ما تساقطوا قتلى على الأرض وهي محلقة في الجو مشبهاً هذا المشهد بمشهد تاريخي لآخر طائرة أميركية أقلعت من سايجون عام 1975 من على سطح سفارتها في تلك الهزيمة التاريخية المدوية التي مُنيت بها أميركا على يد الشعب الفيتنامي وهو واحد من أبسط وأفقر شعوب شرق آسيا لكنه من أشجعها، وكانت الأسلحة التي يقاوم بها الاحتلال الأميركي معظمها تقليدية، فيما جربت معه الإمبريالية الأميركية لتخنيعه معظم أسلحة الإبادة الجماعية،  بما في ذلك النابالم والعامل البرتقالي المبيد للغابات باستثناء السلاح النووي، ولو  كان هذا السلاح حكراً عليها حينئذ- كما كان الحال نهاية الحرب العالمية الثانية عندما أبادت مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين وسوتهما بالأرض بكل القاطنين فيهما حرقاً بالإشعاع النووي في بضع ثوان - لما تورعت عن ارتكاب هذه الجريمة مع الشعب الفيتنامي، بعكس ما يدعيه محلل الدوحة دكتور العلوم السياسية علي الهيل الذي زعم في حوار مع فرانس 24 أن واشنطن  جربت مع حركة طالبان كل الأسلحة الجماعية المحرمة  "ما عدا السلاح النووي"!

 واللافت في هذه العبارة أنها جاءت بعد يومين من استخدامنا التعبير نفسه في مقال قصير لنا نُشر في صحيفة بحرينية إزاء ما ارتكبته الولايات المتحدة من جرائم حرب بحق الشعب الفيتنامي على نحو ما بيناه سلفاً. 

ولئن كانت الإمبريالية الأميركية في المشهد الفيتنامي التاريخي هي المسحوقة كرامةً، فإن الشعب الأفغاني في مشهد الطائرة الأميركية المقلعة دون مبالاة بحياة المتعلقين بها هو المسحوقة كرامته، وإن كان المشهد ذاته قد عرىٰ بامتياز أخلاق الولايات المتحدة، وحتى اللحظة لم يصدر عنها وهي التي اعتادت التباكي على حقوق الإنسان المهدورة في العالم ولا من منظمات حقوق الإنسان الغربية أي موقف إزاء جريمة قبطان الطائرة الذي أقلع بها من المطار وهو يعلم جيداً بوجود بشر بالعشرات ممسكين بها من الخارج! لكن مشهد حشود الأفغانيين بالآلاف في المطار للفرار من وطنهم ومشهد إقلاع تلك الطائرة الأميركية كلاهما لا يخلو من مغزى عميق، فالولايات المتحدة إذ تركت الشعب الأفغاني وحيداً يواجه مصيره بنفسه تحت رحمة طالبان بلا حماية بعد 20 عاما من الوجود العسكري لها وللناتو على أرضه بحجة مكافحة الارهاب وإقامة نظام ديمقراطي له، فيما لم تشيّد سوى نظام فاسد هش، فإن رهانهم على تطمينات كلامية أصدرها قادة طالبان إثر دخولهم العاصمة كشف بدوره عن ريائهم وانتهازية الدوحة وأنقرة وبكين وموسكو التي فاق سفيرها في كابول موقف حكومته المماليء للحركة أضعافاً حينما صور الوضع في كابول في حديث له مع قناة RT بأنه في منتهى الهدوء وأن سبب تدفق الأفغان على المطار ليس بسبب طالبان، بل بسبب تردي الوضع الاقتصادي وأن لا صحة لقيامها بمسح صور النساء السافرات!

لكن هل يمكن الوثوق في تطمينات سلطة يستميت شعبها للفرار منها بكل السُبل وبالآلاف من المطار فور دخولها كابول ولا تعبأ هي بدلالات؟ فماذا أستجد لكي تقنع طالبان الغرب والعالم بتغير جلدها؟ وهل الغرب بحاجة لوقت يتيح فيه لطالبان فرصة ثانية لامتحان وعودها على الأرض وسلوكها الذي تجلى في شوارع العاصمة وفي مطارها منذ الأيام الأولى من اقتحامها المدينة، عدا تجليه طوال حكمها في التسعينيات واحتضانها حينذاك الزعيم الإرهابي السعودي اسامة بن لادن الذي مولته وقاعدته واشنطن نفسها؟ أليست طالبان هي التي نسفت تماثيل بوذا التاريخية بالديناميت في بانيان في العام نفسه الذي جردت فيه واشنطن حملة عسكرية على أفغانستان لإسقاط إمارتها في 2001؟  وبالتالي ليس من تفسير إذن لمواقف واشنطن الرخوة والعواصم الغربية من طالبان سوى أنه يعكس خذلانهم للشعب الأفغاني الجريح واجترار مواقفها المعتادة في مثل هذه المنعطفات التاريخية من حياة الشعوب التي اُبتليت بتدخلاتها العسكرية خدمة لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية الكونية بالدرجة الأولى تحت شعارات مكافحة الإرهاب ومساعدة الشعوب المنكوبة بتدخلاتها على تخليصها من الارهاب ولبناء أنظمة ديمقراطية جديدة مزعومة! 

 

عرض مقالات: