كل من تابع السياسة الخارجية الامريكية منذ سنوات، وتحديدا مع بداية الأزمة السورية وما تخللها من إشتباكات إقليمية ودولية، كان واضحا أمامه عمق التخبط والتردد والإنحسارالإستراتيجي الذي تمر به الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد الداخلي، وعلى مستوى دورها ومكانتها في السياسة العالمية ، وتجلت تداعيات هذا التخبط جلية في الفشل الكبير الذي حصدته سياستها في أفغانستان ، هي وحلف الناتو أيضا.

تتحدث أغلب وسائل الإعلام عن " الفشل الأمني والمعلوماتي " و " الفشل الإستراتيجي" في تقدير الموقف في أفغانستان، وتبدي ذهولها الكبير من سرعة إنهيار القوات الحكومية الأفغانية أمام زحف قوات حركة طالبان، وهذا التركيز على إلقاء اللوم على حكومة عميلة  عاجزة أصلا مرتبطة إرتباطا كليا على الصعيد الأمني والعسكري والإقتصادي بالإحتلال الأمريكي، يدل على أن أمريكا والغرب لم يتعلموا من درس أفغانستان بعد، ولم يواجهوا أنفسهم بحقيقة دلالات هذا الإنهيار، وهي عديدة منها على سبيل المثال:

- أن الحلم الإمبراطوري الأمريكي إنتهى بلا رجعة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون اللاعب الأساسي الأقوى والوحيد على الصعيد الدولي.

- أن موازين القوى الدولية قد تغيرت بالفعل، وبات على أمريكا أن تواجه تحديات جدية في المستقبل، ليس من الصين وحدها، بل من عدة لاعبين سياسيين دوليين وأقليميين، باتوا قادرين على إستنزافها بسهولة في عدة جبهات.

- أن الحليف التقليدي الغربي، لم يعد قادرا على أن ينساق خلف السياسات الأمريكية في العالم ويدعمها بنفس المضمون والقوة كما في فترة الحرب الباردة، لأنه يعاني بدوره من أزمات عميقة جدا لم تظهر نتائجها بعد على السطح بشكل واضح، ولكنها ستتضح أكثر في السنوات القليلة القادمة وخصوصا على الصعيد الإقتصادي.

- بغض النظر عن ما يُسمى بسوء التقدير، والحسابات الخاطئة، إلا أنه من الواضح تماما أن صُناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية ، أدركوا أنهم لا يمتلكون الإمكانيات اللازمة لمتابعة لعبة القفز في الهواء في أفغانستان التي كانوا ينظرون سابقا لأهمية تدخلهم فيها، وها هم مجبرون على تبرير سبب فشلهم هناك، فكما فشلوا في " برنامجهم الدعائي " حول أسباب وأهداف غزوهم للعراق وما سببوه من دمار وخراب، ها هم يكررون الفشل في أفغانستنان.

- تحاول بعض الأوساط الأمريكية والأوروبية الحديث عن " عملية إنسحاب منظمة " تم التخطيط  والاعلان عنها منذ سنوات طويلة، وها هي تتحقق مع الإدارة الأمريكية الجديدة، والحقيقة أنهم كما إنتكسوا في إستثمار ما أسموه سابقا ب " الفوضى الخلاقة "، ها هم ينتكسون من جديد ب " الهزيمة المنظمة " لأن نتائج هذا الفشل قاد وسيقود لإضعفاف مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، وتراجع دورها التدريجي في العالم، وبالطبع في الإقليم وتحديدا أمام التمدد الصيني، والوجود الروسي، والموقف الإيراني.

- بات حلفاء واشنطن مجبرين على البدء في إعادة صياغة علاقاتهم على أسس جديدة حتى مع حركة طالبان نفسها، ومع العديد من الدول وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط، تضمن لهم مصالحهم دون الإرتهان بالموقف الأمريكي أو الإعتماد عليه، مع صعوبة الخروج من الفلك الأمريكي لتشابك المصالح وتعقيداتها.

- دأبت السياسة الأمريكية على إستثمار حالة الصراع الدائم مع " أعداء مفترضين " لتنفيذ سياساتها الخارجية، ولتثبيت وتقوية مركزها الدولي، وتبرير تدخلاتها في العديد من دول العالم لأسباب إقتصادية ليس لها علاقة طبعا لا بقيم العدالة ولا الحرية ولا المساواة ولا شعارات الديمقراطية الأمريكية، وبالتأكيد ستعلن مجددا عن أشكال جديدة من الصراع مع أقطاب دولية، ولكن هذه المرة أيضا ستحصد الفشل الذريع وسيستمر دورها بالتراجع التدريجي، لأن العالم تغير كثيرا في السنوات الماضية وبوتيرة متسارعة، بينما ما زالت سياسة الإدارات الأمريكية شبه تقليدية بالرغم من قدراتها العسكرية الكبيرة وإتساع هيمنتها الدولية وقدرات حلفائها ووكلائها، وعاجزة عن حل أغلب النزاعات والصراعات الدولية، بينما تتمسك بدورها العالمي كأقوى قوة دولية في النظام الدولي.

مع كل تراجع وفشل وإنكسار للمركز العالمي للولايات المتحدة الأمريكية، يقابله حالة من الفراغ يجب أن تملأه الدول الأقدر والأكثر فاعلية وحيوية وطموح ، وبما أن منطقتنا العربية من أكثر المناطق في العالم التي  تعكس ميزان القوى الدولي، فالفرصة تعتبر تاريخية بإمتياز لكي يواجه المشروع الأمريكي هزيمة جديدة أخرى وتحديدا الخروج النهائي من العراق بما سينتج عنه من تداعيات على كثير من الأوضاع في المنطقة، لصالح قوى المقاومة، وينبغي عدم الإنتظار كثيرا لكي تبلور هذه الإدارة خطة طريق جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وسيكون عنوان خداعها الإستراتيجي هو : المفاوضات والإصلاح والتـأهيل للدخول في النادي الدولي.

قادت سياسة الفوضى الخلاقة منطقتنا إلى مزيد من التشتت والتمزيق، ودفع المواطن العربي ثمن السياسات الامريكية ووكلائها المحلين غاليا، ومن المتوقع أيضا أن تصل إرتدادات الهزيمة " المنظمة " في أفغانستان إليها أيضا، فالعدو الإقليمي المفترض والأكثر ترشيحا لأن يتم التركيز عليه يوجد في محيطها، ولا نستغرب أبدا أن يتم إعادة إنتاج أدبيات الحرب الباردة مع الإتحاد السوفيتي من جديد بوتيرة أسرع وأشمل وأكثر حدية ، وبالطبع إستغلال الوكلاء المحليين وخطابهم  الشعبوي والطائفي لتأجيج الصراعات في الإقليم، لأبتزاز الغرب الأوروبي من ناحية، والإشتباك على أراضي " محايدة " مع المنافسيين الدوليين من ناحية أخرى.

من المتوقع بإحتمالية كبيرة جدا، أن نسمع خطابا أمريكيا جديدا، ظاهره الترويج لسياسات جديدة لتحقيق الإستقرار والتوازن والبحث عن تسويات وحلول، بينما من المؤكد أن جوهر السياسة الأمريكية وعقلية " الكاوبوي " الذي لا يضيع الفرص للإنقضاض على خصمه مهما كانت النتائج لن تتغير.

كان الإحساس المفرط بالقوة والعظمة يقود الإدرات الأمريكية المتعاقبة  لتحقيق مصالح المتحكمين برسم سياساتها الخارجية على حساب الكثير من شعوب العالم ، إلى إشعال العالم بالحروب والصراعات ، وسيقود التراجع وإستفحال الأزمات لنفس النتائج هذا ما يعلمه تاريخ الحرب العالمية الاولى والثانية وما بعدهما.

فيما يتعلق بما يسمى بشعوب العالم الثالث أو الدول النامية، من السذاجة توقع أن تتمخض عن إنتصارات أو هزائم أو تسويات أمريكا العسكرية والسياسية، أوضاع تقود إلى التقدم والإستقرار والتمنية والعدالة الإجتماعية والإزدهار والسلم العالمي، فهي قمح الطاحونة، فغول العولمة ورأس المال ليس جمعية خيرية.