قد يخيل لأجيال اليوم ممن لم يعايش أفرادها تطور مجتمعاتنا منذ بداية القرن العشرين حتى سبعيناته، ان فكر التدين وتوجهات الأسلمة كانت هي الناشط والمهيمن على العقل الجمعي في مجتمعات الشرق الأوسط. وان الصراع الأساسي كان على الدوام دائرا بين ذلك الفكر وتجلياته الثقافية والسياسية وبين مختلف التيارات والقوى الأخرى. والحقيقة ان هذا لم يكن الواقع، وقد نشأت تيارات الحداثة قبل التيارات الدينية في المجتمعات التي خرجت من عباءة الإمبراطورية العثمانية، وكانت هي المتسيدة وصاحبة النفوذ والقرار في الحياة الثقافية والفكرية والسياسية.

حتى في شبه الجزيرة العربية، التي تبدو اليوم قلعة لفكر التأسلم والسلفية، كان الهاشميون سدنة الكعبة ميالون الى عصرنة الحياة في مجتمعهم، وانخرط أبناء وأحفاد الشريف حسين، بعد إخراجهم من الجزيرة العربية على يد آل سعود، بدعم من الامريكان، انخرطوا في عملية إنشاء مجتمعات عصرية في سوريا والعراق وشرق الأردن، الملك فيصل الأول في سوريا أولا، ثم في العراق، والأمير عبدالله في أمارة شرق الأردن التي أصبحت لاحقاً المملكة الأردنية الهاشمية.

ولم يأخذ هذا التطور منحى معاكسا إلا مع مطلع سبعينات القرن الماضي، مع إشتداد حدة الصراع بين المعسكرين الدوليين اللذين كانا يتقاسمان النفوذ في العالم حينها. ومع خشية العالم الغربي وقوته المحركة، الولايات المتحدة، من أمتداد النفوذ الشرقي إلى المنطقة التي تحتزن خزان النفط العظيم في العالم، الشرق الأوسط. وكان يصعب مواجهة المدين القومي والأشتراكي، دون بعث تيار ثالث يناهض التيار الإشتراكي وقيمه، والتيار القومي العربي وتطلعاته، حتى الثورة الإيرانية التي كانت في بدئها ذات توجهات وطنية وديمقراطية، وأكتسبت في وقت لاحق مضمونا دينيا طائفيا، ما كان لها أن تمضي في المنحى الذي مضت فيه لولا عوامل أخرى خطط لها الغرب، بناء على دراسة عميقة لتفاعلات كانت تجري في البلدان العربية. فطائفية النظام الإيراني، وتبنيه دستوريا لشيعية الدولة، كانت كفيلة بتحويل وجهة الصراع في المنطقة، من صراع وطني تحرري، الى صراع طائفي شيعي ـ سني.

الثورة الأيرانية والتدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان نبها الغرب إلى إمكانية الإستفادة من العامل الإسلامي في الصراع مع الشرق، وخلق تيارات إسلامية تناهض بعضها بعضا، وتناهض الأشتراكية والتوجهات القومية، وتقضي على خطريهما. وكان النصف الثاني من عقد الستينات قد شهد تماهيا قوميا مع الفكر الإشتراكي، حيث أقتربت التجربة الناصرية من الإشتراكية، وتبعتها حركات قومية عربية عديدة بإعلان تبنهيا للماركسية ـ اللينينة. الأمر الذي ضاعف من الشعور بالخطر لدى قارئي المجسات السياسية في الغرب. وكان لابد من المغامرة، وتبني وتغذية تيارات إسلامية تسعر الحرب ضد السوفييت في أفغانستان وتستنزفهم، وتحول دون إستفراد التيار الإشتراكي الذي كان في طور التحالف مع التيار القومي العربي.

وأستفاد هذا المخطط الغربي من تفاعلات أجتماعية ـ ثقافية شهدتها البدان العربية المؤثرة في حركة الصراع الدولي في المنطقة: مصر، سوريا العراق، تمثلت بإغراق قطاعات المتعلمين في مجتمعات هذه البلدان، بفئات ريفية نصف متعلمة، نتيجة تعميم التعليم الأساسي وحملات مكافحة الأمية، وأقتران ذلك بتخلف مناهج وأساليب التعليم، القائمة على التلقين بدل الفحص والتحليل.وتحولت هذه الفئات إلى رافعة إجتماعية لفكر التيار الثالث، وحاملة لمفاهيمه وقيمه، كون ضحالة خزينها المعرفي تبعدها عن إمكانية التفاعل مع أفكار أكثر عمقا من الفكر التقليدي، ومفاهيم أكثر تحررا من النزعات المحافظة.

ووجد التوجه الغربي لخلق التيار الثالث، تجاوبا من الرئيس المصري الجديد حينها، أنور السادات، الذي وجد في ذلك التوجه سندا له في صراعه مع ورثة الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر ((القوميون ـ الإشتراكيون))، وأسال لعابه على دعم مالي وسياسي غربي يمكنه من ترسيخ سلطته المطلقة. فأغدق السادات دعما غير محدود للتيار الثالث، وعملت مخابراته على تشجيع ((مجاهدي)) ذلك التيار على مواجهة الطلبة اليساريين في الجامعات، وتجنيد آخرين منهم للـ ((جهاد)) في أفغانستان.


وحتى بعد إنقلاب الإسلاميين عليه لم يتمكن السادات من عكس التوجات الإسلاموية التي طغت على الحياة العامة في المجتمع المصري، وفي مجرى حرصه وحرص خليفته حسني مبارك على التأكيد بأن مواجهتهما للجماعات الإسلامية المسلحة، ليست مواجهة مع الدين الإسلامي أو حربا عليه، زادا من جرعة الأسلمة في النشاطات الاجتماعية، وفي الحياة العامة، وأفسحا المجال للمال الوهابي ـ السعودي أن يلعب دورا حاسما في هذا المجال.

وفي العراق لعبت النزعة الدكتاتورية لدى صدام حسين دورا في تغيير المنحى بالأتجاه نفسه، وأدى سعيه إلى القضاء على أي فكر أو نتاج ثقافي، لا يدور في فلكه أو يخدم دكتاتوريته، إلى أفراغ الحياة السياسية من أي محتوى، وفي مرحلة تهرئ نظامه بعد مغامراته العسكرية، توجه هو الأخر مثل كل الحكام المفلسين الى التمسح بالدين، فتحول لقبه من الرفيق المناضل، إلى عبدالله المؤمن صدام حسين. ولم يكن أمام الأجيال التي نشأت في فترة عهده المديد، إلا أن تتشبع بـ ((فكره)) الذي تحطم عمليا بالنتائج الملموسة لذلك الفكر على أرض الواقع، أو بالفكر الآخر الوحيد المتاح، وهو الفكر الديني.


وجاء إنهيار التجربة الإشتراكية في شرق أوربا، نهاية الثمانينات، والتراجع المريع للفكر القومي والتجربة القومية في مصر والعراق وسوريا، ليشكلا عاملين حاسمين إضافيين، من عوام خلو الساحة الفكرية ـ الثقافية ـ السياسية من أي بديل لفكر التأسلم في المنطقة، وعجز بقايا التيارين عن مواجهته.