المقال مخصص لدور الدول الغربية في انقلاب عام 1963 في العراق. لقد أدت ثورة 1958 العراقية، التي أطاحت بالنظام الملكي، إلى تحرير البلاد من الوصاية البريطانية، بما في ذلك دورها المهيمن في صناعة النفط العراقية. واختار النظام العراقي الجديد بقيادة عبد الكريم قاسم، على الرغم من تناقضه، طريق الاعتماد أكثر فأكثر على الاتحاد السوفيتي في توجهاته المتعلقة بالسياسة الخارجية. وفي شباط ومن ثم في تشرين الثاني عام 196، حدث انقلابان في العراق، ولقيا ترحيباً من جميع معارضي ثورة تموز عام 1958، داخل البلاد وخارجها. وشارك ضباط وكالة المخابرات المركزية في التحضير لانقلاب شباط. ومن الواضح أنه بعد إسقاط قاسم، أصبحت السياسة الخارجية للعراق في عهد حزب البعث، وكذلك في عهد الأخوين عارف، أكثر ميلاً للولايات المتحدة.

يرتبط انقلاب 8 شباط 1963 في العراق ارتباطاً وثيقاً بثورة 1958 والنظام اللاحق الذي قاده عبد الكريم قاسم. لقد كانت ثورة 1958 إلى حد بعيد الظاهرة الأكثر تقدماً في التاريخ العراقي الحديث. فبحلول عام 1958، كان العراق من أفقر البلدان، حتى بمعايير الشرق الأوسط. فقد سادت العلاقات شبه الإقطاعية في المناطق الريفية، والتي أعاقت تطور العلاقات الرأسمالية في المدينة أيضاً. وساهمت هيمنة البريطانيين في استقرار مثل هذا الوضع. وكان العراق، الدولة الغنية بالنفط، يعتمد بشكل متزايد على شركات النفط الأجنبية، البريطانية والأمريكية في المقام الأول. وتمكنت منظمة الضباط الأحرار، التي كانت في ذلك الوقت من أكثر فئات المجتمع تسييساً وتعليماً وتماسكاً وثقلا ً، بالاتحاد مع جبهة الإتحاد الوطني، التي تحالفت فيها أكبر أربع أحزاب في العراق في عام 1958.

لذلك، فإن ثورة 14 يوليو 1958 التي قام بها "الضباط الأحرار" برئاسة اللواء عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف، أدت إلى تشكيل معارضة موحدة للنظام القائم من الضباط. وتحرر رئيس الدولة الجديد عبد الكريم قاسم قبل كل شيء من الوصاية البريطانية بعد انتصار الثورة. وتمت إزالة الحماية البريطانية، وصنيعتها رئيس الوزراء الدائم ووزير الخارجية نوري السعيد، وتمت الإطاحة بالنظام الملكي. وكان الإصلاح الزراعي من أهم الإنجازات خلال عهد قاسم، والذي شكل بداية انهيار العلاقات شبه الإقطاعية في الريف. وتم تقويض الوزن السياسي لكبار ملاك الأراضي، وكذلك الشركات الأجنبية الكبرى في البلاد بشدة. وتم نقل السلطة السياسية والاقتصادية تدريجياً إلى المدن، إلى أيدي البرجوازية الصغيرة. ومن الجدير بالإشارة إلى أنه خلال العامين الأولين، ظلت شركة نفط العراق بمنأى عن العاصفة الثورية، التي كانت مهمة للغاية بالنسبة للغرب. وعلاوة على ذلك، أكد أعضاء الحكومة العراقية الجديدة للبريطانيين أن العلاقات مع بريطانيا ستبقى لها أولوية مهمة بالنسبة لهم، وعبر اللواء عبد الكريم قاسم الثورية، للسفير الأمريكي: "... نحن العراقيون نريد اقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة".

لم تتدخل الولايات المتحدة في الثورة العراقية في البداية، بل اعترفت بسرعة بالنظام الجديد في العراق. ويبدو أن هذا الموقف للولايات المتحدة لا يحتمل التصديق اليوم. ومع ذلك، في عام 1958، كان عدم تدخل الولايات المتحدة في الأحداث العراقية أمراً مفهوماً. أولاً، لم يسمح النظام العالمي، الذي اتسم بالمواجهة ثنائية القطب، للولايات المتحدة بارتكاب عمل عدواني ضد دولة ثالثة، وخاصة دولة ثورية، دون إثارة رد فعل من الاتحاد السوفيتي. ثانياً، كانت لدى واشنطن خشية من أن يؤدي عدم اعتراف الغرب بالنظام الجديد إلى إجبار العراق على التوجه صوب الاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، على الرغم من وقوع الأحداث في اتجاه مختلف تماماً. ثالثاً، كان السياسيون الأمريكيون يأملون أن يتجه العراق، بعد الإطاحة بالحكم البريطاني المكروه، نحو الولايات المتحدة. وأخيراً، كانت الثورة في العراق ذات طبيعة برجوازية، وعلى الرغم من علاقة الثقة التي أقامها العراق مع الاتحاد السوفيتي، ولم يجر الحديث عن بناء اشتراكية في البلاد بعد الثورة.

وبدأت تكتيكات جديدة في تصرفات الولايات المتحدة تجاه العراق، والتي يمكن وصفها بأنها مغازلة أو محاولة للتلمس من أجل علاقات محتملة مع الحكومة العراقية الجديدة. أما بالنسبة لدول الشرق الأوسط "المعتدلة"، وخاصة الأردن والسعودية ولبنان، فقد أحدثت الثورة في العراق ارتباكاً هناك، وهو أمر مفهوم إذ يمكن أن يثير الحدث ردة فعل من جميع قوى المعارضة في هذه البلدان. ولكن من أصيب بخيبة أمل حقيقية من ثورة 1958 هم القوميون العرب، الذين علقوا كل آمالهم على توحيد العراق مع الجمهورية العربية المتحدة. لقد كان الرئيس جمال عبد الناصر من وجهة نظرهم من يعبر عن آمال وتطلعات كل العرب. وعلى أي حال كان ناصر أيضاً بطلاً من بين النخبة. ولذا كتب أحد أفراد الأسرة السعودية قائلاً:"أن ناصر هو معبودهم. لقد عشقه الأمراء الشباب جميعهم وتجادلوا بشدة حول من يحبه أكثر. لكننا شعرنا وكأننا ناصريين شأننا في ذلك شأن كل العرب. وكان هذا واضحاً في عائلتي. كان عمي وأبي معجبان بناصر، واستلهموا خطبه وأفكاره الجديدة. وكانت صوره معلقة في كل مكان، وامتدحه الجميع".

ومع ذلك، فإن آمال القوميين العرب في توحيد دول الشرق الأوسط لم تتحقق. بعد الثورة، أصبح العراق ومصر عدوين. وبدأ قاسم تنتابه الخشية من حزب البعث العربي الاشتراكي والناصريين، وشرع في اتخاذ إجراءات ضدهم. ووجد ناصر نفسه في موقف صعب للغاية. وجراء تعرض أنصار عبد الناصر للاضطهاد في العراق، أصبح قاسم عدواً لناصر، وبالتالي للجمهورية العربية المتحدة. ومع ذلك، كان من الصعب للغاية على ناصر محاربة مثل هذا العدو. فمهما كان، فإن قاسم بالطبع لم يكن رجعياً مثل الملك حسين أو نوري السعيد، بل على العكس، كان مناضلاً من أجل حرية العراق، ووطنياً عربياً، وكانت القاهرة وبغداد تواجهان أعداء مشتركون وأصدقاء مشتركون. لذلك، كانت المعركة ضد قاسم تهدد هيبة عبد الناصر وصورته السياسية. بالإضافة إلى ذلك، كان وجود التحالف المصري السوري نفسه في خطر. فبالتحالف مع مصر، رفضت سوريا بالتالي ادعاءات الهاشميين بالتحالف معها. والآن وقد تمت الإطاحة بالنظام الملكي العراقي، فليس هناك أي موجب للدفاع عن تلك الوحدة. إلا أن سقوط النظام العراقي المكروه لم يؤد إلى الوحدة مع العراق الجديد، رغم أن العراق كان من حيث موقعه الجغرافي وتاريخه واقتصاده وتركيبته الاجتماعية هو البلد المناسب الذي يمكن لسوريا أن تسعى للوحدة معه.

اضطر ناصر إلى إدانة النظام العراقي لاضطهاد أنصاره، لكنه لم يستطع التحدث علانية ضده، وكان عليه أن يتأكد من أن معظم الأحزاب في الجمهورية العربية المتحدة تدعم نظامه. ولعبت بريطانيا العظمى دورها في العلاقات المتدهورة بين القاهرة وبغداد. ووفقاً للمؤرخ د. مارلو، "تم الترحيب بتقدم قاسم السريع كمنافس وليس حليفاً لناصر بالبهجة المقنعة بالكاد في وايتهول". كان المبدأ الأساسي للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط هو دعم نظام قاسم مقابل ناصر. ولعب الوضع المعقد بين مصر والعراق لصالح الولايات المتحدة. فلقد "عمقت فقط المعارضة السياسية بين مصر والعراق، وبالتالي إثارة العداء بين الدول وداخلهما". ويمكن اعتبار ذروة الأزمة في العلاقات العراقية المصرية قمع عصيان الموصل في آذار 1959 بقيادة ضباط قوميّين عرب بقيادة العقيد الشواف وبدعم من الجمهورية العربية المتحدة. في هذه الحالة، اضطر الاتحاد السوفياتي لمساعدة بلدين متحاربين. في نهاية عام 1958، وقع الاتحاد السوفياتي والعراق اتفاقية بشأن التجارة والمساعدة العسكرية، وعلى أساسها بدأ الاتحاد السوفيتي بتزويد العراق بالأسلحة. ووصل المدربون العسكريون السوفييت إلى البلاد.

وفي آذار عام 1959، تم التوقيع على اتفاقية ثانية، منح بموجبها الاتحاد السوفيتي للعراق قرضاً بقيمة 137.5 مليون دولار لتنمية الاقتصاد الوطني. كان هذا المبلغ هو ثاني أكبر مبلغ يقدمه اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية حتى ذلك الوقت. فقد تم تقديم القرض الأول لمصر. وتجدر بالإشارة إلى أنه في عهد قاسم، اكتسب الاتحاد السوفييتي نفوذاً كبيراً في البلاد. فبعد ثورة 1958، خرج الحزب الشيوعي العراقي من العمل السري، وضم قاسم العديد من ممثليه في المرافق الحكومية. وكان الحزب الشيوعي العراقي منظماً بشكل جيد، ولديه خلايا في جميع أنحاء البلاد ويتلقى دعم واسع من السكان.  لذا اعتبر مدير وكالة المخابرات المركزية ألان دالاس الوضع في العراق في نيسان عام 1959:"الأكثر خطورة في العالم"، مشيراً إلى حقيقة أن الشيوعيين كانوا قريبين من الاستيلاء على السلطة تماما ".

وفي خريف العام نفسه، جرت محاولة اغتيال فاشلة لقاسم نفذها عملاء الجمهورية العربية المتحدة وحزب البعث، بدعم من وكالة المخابرات المركزية. وعلى حد رأي بريماكوف، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى تدمير نظام قاسم، لأن الأزمة الداخلية في العراق عززت مواقع الحزب الشيوعي، الذي أصبح قوة حقيقية تتمتع بدعم جماهيري. وعلى الرغم من أن قاسم شرع في نهاية الخمسينيات بحملة قمع ضد الشيوعيين وأطلق العنان للحرب ضد الأكراد في شمال البلاد، ولكن مع ذلك لم يعد موضع رضى واشنطن ولا لندن. بالإضافة إلى ذلك، كانت شركات النفط الأمريكية والبريطانية تواصل تهديداتها ضد النظام خاصة بعد أن تم اتخاذ قرار إنشاء منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في أيلول 1960، حيث أصبحت المملكة العربية السعودية والكويت وإيران والعراق وفنزويلا الأعضاء المؤسسين لهذه المنظمة. وانضمت إليها دول أخرى في الشرق الأوسط في وقت لاحق. وبدأت الدول المصدرة للنفط تدرك أن الهيدروكربونات أصبحت مصدراً حقيقياً للدخل. كما ترجع الحاجة إلى تنسيق الإجراءات لحماية مصالحها الوطنية إلى حقيقة أن الدول المنتجة للنفط كانت ملزمة باتفاقيات الامتياز، والتي بموجبها حصلت على إجمالي أقل من 10٪ من الدخل الذي كان يمكن أن تحصل عليه إذا أداروا مواردهم النفطية بأنفسهم. أما في داخل أوبك، فقد تصرفت الدول العربية المحافظة والراديكالية بشكل مختلف. وفضلت السعودية والكويت وقطر سياسة "الخطوات الصغيرة" خشية أن تؤدي المراجعة الجذرية لاتفاقيات الامتياز إلى زعزعة الاستقرار العسكري والسياسي في المنطقة.

أصدر قاسم، في تشرين الأول عام 1961، قانوناً أنهى المفاوضات العقيمة وبالتالي غير المثمرة مع شركة النفط العراقية، وحصر القانون حقوق الامتياز للشركات الأجنبية في مساحة 0.5٪ من إجمالي النفط المنتج فيها، وأصبحت نسبة 99.5٪ من الأراضي المتبقية ملكاً للعراق. وصدر هذا القانون المرقم 80 في كانون الأول عام 1961. وفي صيف عام 1961 أثار العراق أزمة الكويت. لقد حصلت الكويت، التي كانت تحت الحماية البريطانية منذ عام 1899، على الاستقلال الكامل في حزيران عام 1961. وقبل أن يبتهج سكان الكويت بالاستقلال الممنوح، أعلن قاسم أن الكويت هي جزء من أراضيه العراق الجنوبية، وأن بإمكان الجيش العراقي حماية البلاد ضد أية تجاوزات خارجية. وتجدر بالإشارة إلى أن الكويت كانت بالفعل في تلك السنوات من أغنى دول العالم من حيث دخل الفرد. ولم يكن أمام الشيخ الحاكم من خيار سوى استدعاء القوات البريطانية مرة أخرى. ووجد ناصر نفسه مرة أخرى في موقف مزدوج. فمن ناحية، كان عليه أن يقف ضد العراق، لأن أساس أي اتحاد عربي لا يمكن إلا أن يكون تقرير المصير. ومن ناحية أخرى، كان وجود القوات البريطانية في الشرق الأوسط مخالفاً للمبادئ التي يؤمن بها رئيس الجمهورية العربية المتحدة. ونتيجة لذلك، وفي 14 أيلول، تم استبدال القوات البريطانية بقوات مشتركة من المملكة العربية السعودية والأردن والجمهورية العربية المتحدة. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يمكن أن يلعب دوراً إيجابياً في تعزيز دور عبد الناصر كقائد لجميع القوميين العرب: فقد تبادلت القوات العربية الموحدة مواقفها مع البريطانيين، مع الاستمرار في الدفاع عن المصالح الإمبريالية البريطانية. كما وجد العراق نفسه في موقف صعب: فقد انسحب من جامعة الدول العربية، وتم تحديد أراضي الكويت على الخريطة الجغرافية الجديدة على أنها أراضي العراق. واصدرت وزارة الخارجية العراقية بياناً قالت فيه ان العراق سيقطع العلاقات مع الدول التي اعترفت باستقلال الكويت ولها علاقات دبلوماسية معها.

ونتيجة لذلك، تم سحب جميع أفراد البعثات الدبلوماسية العراقية من تلك الدول التي توجد بها بعثات دبلوماسية كويتية. ووجد العراق نفسه في عزلة خطيرة ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضاً على المستوى الدولي. وبفضل الموقف السياسي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية فقط، نجح العراق في تأجيل قرار الأمم المتحدة بقبول الكويت في عضويتها. لقد استغلت بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، على وجه الخصوص، الأحداث "حول العراق" لصالحها، وقدمت الدعم للكويت. وأصبح العراق دولة منعت الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها في المنطقة. وكان هناك العديد من الأسباب لذلك. فقد دعمت الولايات المتحدة إيران، التي كانت منافسة العراق خلال فترة طويلة على القيادة في الخليج العربي. وتجدر بالإشارة أن إيران دعمت أكراد العراق الذين دخلوا في مواجهة مع بغداد، وزودتهم وكالة المخابرات المركزية بأسلحة خفيفة. كما أن العراق ترك حلف بغداد، وهو من بنات أفكار الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، وأصبح الحلف بدون بغداد. كما أن الثورة العراقية يمكن أن "تصيب مثلها" دول أخرى في الشرق الأوسط الأخرى، وهو ما يثير قلق الولايات المتحدة وبريطانيا.

وعلاوة على ذلك شرع العراق في سياسته الخارجية في الاعتماد أكثر فأكثر على الاتحاد السوفيتي، بمعنى آخر، كان العراق خلال فترة قاسم مدعوماً بسبب مناهضته للإمبريالية. وعند تحليل فترة رئاسة قاسم للوزراء، يمكن ملاحظة أنه خلق فراغاً سياسياً خطيراً في بيئته الخاصة. فهو لم يضطهد فقط أعضاء حزب البعث والناصريين، بل حتى الضباط الذين كانوا يدعمونه. وبحلول نهاية الخمسينيات، بدأ بمهاجمة الشيوعيين، الذين كانوا بعيدين كل البعد عن نيتهم الاستيلاء على السلطة. وهكذا، خلق قاسم فراغًا خطيراً حوله: وكان الاستيلاء على السلطة ممكناً فقط عبر القضاء عليه. وعلاوة على ذلك، كانت هناك قوة في البلاد تدعي أخذها بزمام القيادة، وهم البعثيون.

في أوائل عام 1963، اجتمع أعضاء من البعثيين العراقيين والسوريين في بيروت لمناقشة خطط الإطاحة بالحكومتين في العراق وسوريا. وفي 8 شباط 1963 وقع أول انقلاب في العراق ووصل حزب البعث إلى السلطة. ولقي هذا التغيير ترحيباً من قبل جميع القوى الرجعية ومعارضي ثورة 14 تموز عام 1958. ويقارن الحرس القومي، الذي كان الأداة القمعية الرئيسية للنظام البعثي الجديد بالجستابو، وأطلق على الانقلاب بشكل عام صفة الانقلاب الفاشي. وبدأ مباشرة بعد الانقلاب حملة اضطهاد وحشية ضد القوى التقدمية في البلاد، وخاصة الشيوعيين، مما أدى إلى تدهور حاد في العلاقات السوفيتية العراقية. وكانت المجازر التي وجهت ضد الشيوعيين جسيمة وفظيعة لدرجة أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 16 شباط 1963 نشرت بياناً يدين الإرهاب الدموي ضد الشيوعيين العراقيين. وفي موسكو خرجت مظاهرة أمام السفارة العراقية رافقها تهديدات ضد الانقلاب. وتم تعليق المساعدات العسكرية السوفيتية للعراق. وشارك ضباط وكالة المخابرات المركزية الذين يعملون تحت سقف السفارة الأمريكية في الاستعدادات لانقلاب شباط. فقد صرح رئيس تحرير جريدة الأهرام المصرية محمد حسنين هيكل بناء على تصريحات العاهل الأردني الملك حسين أن "وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، كانت على صلة مع البعثيين العراقيين، وأبلغتهم عبر قناة اتصال سرية، بأسماء وعناوين الشيوعيين العراقيين. هذه الحقيقة أكدها الباحث بنروز الذي أكد المعلومة التالية: "أخبرنا مسؤولون عراقيون مطلعون، بمن فيهم أعضاء في حزب البعث، أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عملت معهم للإطاحة بقاسم".

 إن وجهة نظرنا لم تتغير منذ ذلك الحين. فقد اعتبر السفيران الأمريكيان في العراق في عهد عبد الكريم قاسم، ف. غولمان و د. جيرنيغان، اللذان كانا دبلوماسيين من ذوي الخبرة، إن اتهامات قاسم بـ "الشيوعية" هي محظ هراء. ومع ذلك، فإن وكالة المخابرات المركزية، بقيادة ألين دالاس، الذي كرس نفسه لأهداف الحرب الباردة، لم تأخذ بهذا الرأي. لقد أخبرنا لاحقاً هاشم جواد، وزير الخارجية العراقي:" أن الوزارة كانت على علم بتواطؤ حزب البعث ووكالة المخابرات المركزية في الانقلاب" فقد زودت وكالة المخابرات المركزية حزب البعث بأسماء ومساكن أعضاء الحزب الشيوعي، ونفذ الحرس القومي عمليات إعدام جماعية. وإن الشيوعيون الذين سُجنوا في ظل نظام قاسم بعد مراسيم الحظر ضد أنشطة الحزب الشيوعي العراقي في 1959 و1960 قتم قتلهم بدون محاكمة. وطبقاً لمصادر الحزب الشيوعي العراقي، فقد قُتل خلال الأيام الثلاثة الأولى بعد الانقلاب حوالي 5 آلاف شيوعي وأنصارهم. وتزعم مصادر أخرى أنه في نهاية عهد حزب البعث، قُتل ما بين 3 إلى 5 آلاف شيوعي. كما شاركت " خدمات التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس الفرنسية"(Service de Documentation Exterieure et de Contre-Ezpionnage) في الإطاحة بقاسم وفي قمع الشيوعيين.  وفي أول بيان رسمي في إذاعة بغداد باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة، قيل إن "الحكومة الجديدة ستزيد من الرفاهية المالية للبلاد وتضمن استمرار الإمدادات النفطية". لذلك كان واضحا منذ البداية أن الانقلاب جاء بمباركة ومساعدة شركات النفط الأجنبية.

لقد سعت شركة النفط العراقية منذ منتصف الخمسينيات إلى زيادة إنتاجها من النفط الخام لبيعه لشريكاتها البريطانية والهولندية والفرنسية والأمريكية. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن الطلب على النفط في السوق العالمية زاد بشكل كبير، وكان العراق لقمة سائغة، حيث كان النفط موجوداً في أماكن يسهل الوصول إليه، مما يعني أن إنتاجه كان رخيصاً مقارنة بالدول الأخرى. فوفقاً للتقديرات المتاحة في أوائل الستينيات، بلغت التكلفة الإجمالية للنفط المنتج والمعالج (باستثناء تكلفة الاستكشاف) 7 سنتات للبرميل في العراق، و10 سنتات في المملكة العربية السعودية، و46 سنتاً في الجزائر، و62 سنتاً في فنزويلا و151 سنتاً في الولايات المتحدة. وعلى هذا، فإن انقلاب 8 شباط 1963 تم تدبيره إلى حد كبير من قبل قوى خارجية. بالطبع، لم يكن عبد الناصر راضياً أيضاً عن نظام قاسم، لأن الأخير لم يرغب في السير تحت قيادته، وتخلى عنه بالفعل. وفي تشرين الثاني عام 1963 حدث انقلاب جديد في العراق أسقط سلطة البعث وتولى العقيد عبد السلام عارف الحكم.

 

عرض مقالات: