نشأت القومية في أوربا، استجابة لحاجات التطور الأقتصادي بهدف توحيد السوق التي كانت مجزأة بين أمارات إقطاعية. وكانت البرجوازية الناهضة بحاجة الى خلق وعي جديد، قائم على توسيع الأنتماء، من دويلات الأمارات الى دول مركزية توحد مجتمعات تلك الأمارات في كيانات أكبر، واستحداث دائرة أنتماء جديدة أوسع تتجاوز الأنتماء الديني الى انتماء يستند الى وحدة اللغة، دائرة أنتماء تتسامى على وحدة الأنتماء الكنيسي. أي أن الوعي البرجوازي القومي تشكل كمنافس فكري وخصم للوعي الإقطاعي بفكره الديني. وشكل ذلك نقلة تقدمية في سيرورة المجتمعات من الناحيتين الأقتصادية والفكرية، من حيث أنه وضع المسلمات الدينية والعلاقات المستمدة منها والقائمة عليها موضع تساءل ونفي.

 وحين تهرأت الخلافة العثمانية، نشأت بين نخب من الشعوب غير التركية الملحقة بالخلافة تطلعات الى التحرر من نيرها، عبر السعي الى بلوروة وأبراز دائرة أنتماء تقوم على أساس لغوي، مقابل دائرة الأنتماء الديني التي تقوم عليها الخلافة. وهي الأنتماء الى اللغة العربية. وبدأت تدخل حيز النقاش الفكري فكرة وجود أمة عربية، تجمع شعوبها اللغة والثقافة وليس الدين. وتبني هذه الأفكار والتطلعات مثقفون مسيحيون من بلاد الشام. وتوافقت هذه التطلعات مع المخططات البريطانية، وربما الأوربية، لتقويض دولة الخلافة العثمانية وتقاسم ممتلكاتها. وجرى أستمالة شريف مكة الحسين بن على الى فكرة أنشاء مملكة عربية تضم بلدان الجزيرة العربية والعراق والشام.

 وكان تطور هذا المنحى سيشكل نقلة تقدمية، تخفف من حالة الركود الفكري والسياسي التي سادت المنطقة خلال القرون العديدة التي خضعت فيها للخلافة العثمانية. لكن سرعان ما جرى ربط موضوعة الأمة العربية والقومية العربية، بالدين الأسلامي. ولعب ميشيل عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث، دورا أساسيا في التنظير لمقولة إن (( الإسلام روح القومية العربية )). مقوضا بذلك فكرة القومية من أساسها الذي هو تجاوز الأنتماء الديني، ألى أنتماء لغوي ثقافي. لتوسيع دائرة الأنتماء بما يوحد العناصر التي تشكل الأمة، ويسهل تطوير العلاقات الأقتصادية والسياسية ويزيل العوائق أمام حركة السوق.

 وبدخول جمال عبدالناصر الى حيز الفعل المؤثر في السياسية العربية، وتبنيه، هو الآخر، لأطروحة الربط بين العروبة والأسلام، للأستفادة من ذلك في صراعه على النفوذ مع التيارين، الشيوعي واسع التأثير في الخمسينات، والليبرالي الذي كان يتجه الى الإنحسار. بتبنيه لهذا الربط خسر التيار القومي العربي إمكانية النهوض بدور تقدمي، وإكساب مفهوم القومية مضامين تبتعد بها عن خصمها المفترض أي التيار الأسلامي.