نانسي فريزر (Nancy Fraser) من مواليد 1947 في بالتيمور، ماريلاند في الولايات المتحدة، فيلسوفة واستاذة علوم سياسية، وواحدة من أشهر النسويات الأمريكيات. كما تعدّ من أهم فلاسفة الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت النقدية. من أهمّ مشاغلها نجد موضوع اختصاصها الأوّل وهو الفلسفة السياسيّة، ومن الإشكاليّات التي بحثت فيها نذكر العدالة والحقّ، والنظريّة النسويّة والفضاء العمومي. تعمل فريزر حاليا أستاذة للعلوم السياسية والاجتماعية في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك. وتصدر مع أندرو أراتو مجلة  Constellations وهي مجلة دولية للنظرية النقدية والنظرية الديمقراطية. من منظور تحليل بولاني التاريخي لـ"التحول العظيم"، تتناول الأزمة الحالية وكيف يتم التغلب عليها.

     من جديد يجري الحديث عن "الاشتراكية" في اغلب الأحيان وفي كل مكان. ولعقود كانت هذه الكلمة مستهجنة، ورمزا لفشل رهيب، ومن مخلفات زمن مضى. واليوم ينتهي كل هذا! ويحمل اليوم سياسيون مثل بيرني ساندرز وإسكندرية أوكاسيو كورتيز، بكل فخر لقب "اشتراكي" ويتمتعون بتأييد واسع. ولا تستطيع منظمات مثل "الاشتراكيون الديمقراطيون في أمريكا" استيعاب زخم الأعضاء الجدد. لكن ماذا نقصد بالضبط بـ"الاشتراكية"؟ حتى لو كنا سعداء بالحماس الجديد، فإن هذا الحماس لا يترجم تلقائياً إلى مناقشة جادة للمحتوى. إذن ما الذي تعنيه "الاشتراكية" بالضبط في عصرنا الحالي، وما الذي يجب أن تمثله؟

   سأطرح بعض الأفكار بشأن هذه الأسئلة، والتي لا تمثل بعد إجابات كاملة. ومثلما أتبنى تحليلا واسعا للرأسمالية، أقترح أيضاً فهماً شاملاً للاشتراكية ينهي الرؤى الاقتصادية الشائعة السابقة. وبما أنني لا أرى الاقتصاد الرأسمالي معزولا، بل في سياق علاقته المتناقضة والمدمرة مع ظروفه "غير الاقتصادية"، فمن الواضح لي أن الاشتراكية يجب أن تفعل أكثر من مجرد التغيير في ميدان الإنتاج. ويجب أن تحدث الاشتراكية ايضا تغييراً جوهرياً في القطاعات والظروف التي تجعل الإنتاج الرأسمالي ممكنا. أتحدث عن ميدان الانجاب، وسلطة الدولة، والطبيعة غير البشرية، وأشكال الثروة التي تقع خارج النطاق الرسمي لرأس المال ومع ذلك يتضمنها. وبعبارة أخرى: أنا مع الرأي القائل بأن الاشتراكية المعاصرة يجب ألا تلغي فقط الاستغلال الرأسمالي للعمل المأجور. ويجب أن تتجاوز استغلال أعمال الرعاية المجانية، وكذلك استغلال الممتلكات العامة، وأن تنهي مصادرة الثروة، الذي يقوم على مصادرة الأفراد والموارد الطبيعية على أسس عنصرية.

    والنتيجة ستكون مفهوما موسعا بوضوح للاشتراكية. لكن التوسع لا يعني مجرد إضافة شيء ما. ولا يتعلق الأمر بإضافة بعض الجوانب والأبعاد الجديدة للمفاهيم التقليدية، وتركها في الأساس كما هي. وأكثر من هذا، تتمثل المهمة في مراجعة وجهات نظرنا حول كل من الرأسمالية والاشتراكية ودمج التحليلات الهيكلية للجوانب التي يُنظر إليها عادةً على أنها ثانوية: خاصة الجندر/ الجنس، والعرق/ الإثنية/ الجنسية/ الإمبراطورية، والبيئة والديمقراطية. عندما نفعل هذا، تظهر فجأة العديد من الموضوعات الكلاسيكية للفكر الاشتراكي في ضوء مختلف: الحكم والتحرر، الطبقة والأزمة، الملكية، الأسواق والاقتصاد المخطط، العمل المجتمعي الضروري، وقت الفراغ وفائض القيمة الاجتماعي.

    بالطبع، لن أتمكن في هذه المحاضرة من تناول كل هذه الأسئلة بشكل شامل، بل سأعلق على ثلاثة من هذه الموضوعات: الحدود المؤسسية وفائض القيمة الاجتماعي والأسواق. وفي تناولي لهذه الأمثلة، سأوضح ان المشكلة ستتخذ شكلا مختلفا عندما لا نرى الرأسمالية على أنها مجرد نظام اقتصادي، وان الاشتراكية لم تعد مجرد نظام اقتصادي بديل. وسينتج عن هذا التناول مفهوم للاشتراكية، يختلف بشكل واضح عن الشيوعية وفق النمط السوفييتي من ناحية، وعن التصورات الديمقراطية الاجتماعية من ناحية أخرى.

    وسأبدأ بالرأسمالية، فبالنسبة لي بالتأكيد هي نقطة البداية لأي نقاش حول الاشتراكية. وفي النهاية فالاشتراكية هي أكثر من "مجرد ما ينبغي" أو حلم طوباوي. وإذا كنا ننشغل الآن بالاشتراكية، فذلك لأنها تحتوي على إمكانيات حقيقية ومشروطة تاريخيا، إمكانيات الحرية والرفاهية والسعادة للناس التي جعلتها الرأسمالية في متناول اليد، ولكنها لا تستطيع تحقيقها. وبالتالي، فإن التوجه نحو الاشتراكية هو استجابة لأوجه القصور والظلم في النظام الرأسمالي: المشاكل التي تخلقها يوما بعد آخر، ولا تستطيع حلها، وأشكال التسلط الهيكلي المبنية في النظام والتي لا يستطيع تجاوزها. وبصياغة عامة، تدعي الاشتراكية أنها قادرة على ازالة انتهاكات الرأسمالية. ومن هنا تكون البداية. عندما نحدد الديناميكيات الجوهرية والهياكل المؤسسية للرأسمالية، فإننا سنعرف أيضاً ما الذي يجب تغييره بالضبط. وعلى هذا الأساس فقط سنكون قادرين على تحديد الخطوط العريضة الإيجابية للبديل الاشتراكي. إذن: ما هي الرأسمالية بالضبط؟ وما الخطأ فيها؟

ما هي الرأسمالية؟ رؤية موسعة

    غالباً ما يُنظر إلى الرأسمالية على أنها نظام اقتصادي يتميز بالسمات الاتية: الملكية الخاصة والتبادل عبر الأسواق، والعمل المأجور وإنتاج السلع، ونظام الائتمان والتمويل، والأرباح، والفوائد، واردات الأراضي. كل هذا يجد تعبيره في النقود ويتشابك بطريقة تجعل النمو الاقتصادي أمرا حتميا وضروريا للنظام. ومن وجهة النظر هذه، فإن الرأسمالية مطابقة لمجمل الأنشطة والعلاقات والأشياء التي يتم تحويلها إلى نقود والتي تعمل على تجسيد أو إنتاج قيمة اقتصادية. دعونا نسمي هذا النظرة، بالنظرة الضيقة أو المحدودة للرأسمالية. إنها تتوافق مع فهم معظم رجال الأعمال والاقتصاديين العاديين، ولكنها تتوافق أيضاً مع الفهم السليم لغالبية المجتمع. هذه النظرة الضيقة للرأسمالية منتشرة على نطاق واسع لدرجة أنها تشكل تفكير بعض منتقديها.

    ما سأشير إليه أدناه بتوصيف "الماركسية التقليدية" هو مثال على ذلك. ينظر ممثلوها إلى الرأسمالية على أنها نظام للاستغلال الطبقي، في مركزه تقف العلاقة بين الرأسماليين والعاملين بأجر في مواقع الإنتاج. ووفقا لوجهة النظر هذه، فإن العامل الحاسم هو العلاقة بين أولئك الذين يمتلكون وسائل الإنتاج، وأولئك الذين لا يملكون شيئاً سوى قوة عملهم، وبالتالي يتعين عليهم بيع هذه "السلعة الخاصة" إلى الرأسماليين من أجل البقاء. هذه العلاقة هي نتيجة صفقة سوق يتم فيها تبادل العمالة مقابل الأجر. انها ليست تبادلا متكافئا، بل وعلى العكس من ذلك: لا يدفع رأس المال إلا مقابل ساعات العمل الضرورية اجتماعيا (أي ساعات العمل الضرورية لإنتاج مبلغ من القيمة يغطي تكاليف معيشة العمال). اما ساعات عمل العمال المتبقية، فهي التي تنتج "فائض القيمة". أي ان هذه العلاقة قائمة على "الاستغلال". وفقا للماركسية التقليدية، فإن الاستغلال هو جوهر الرأسمالية. إنه السر وراء انتاج فائض القيمة، القوة الدافعة وراء تصاعد الإنتاجية والابتكار التكنولوجي. لكنها أيضاً مصدر الفقر واللامساواة الطبقية، ومحرك اللاعقلانية الهائلة، وهي وراء البطالة الجماعية التي لا تحدث عشوائيا، والأزمات الاقتصادية الدورية.

    لا شك في أن المفهوم الماركسي التقليدي للرأسمالية أفضل التفسيرات السائدة. ومع ذلك فإن هذا الفهم غير مكتمل. يجري التركيز فقط على "الموقع الخفي" للإنتاج ويهمل النظر إلى الظروف التي يقوم عليها. وهذه يمكن العثور عليها في مواقع أخرى "غير اقتصادية" وحتى أكثر خفاء. في الماركسية التقليدية، يمكن للمرء أن يقول، انه يتم التقاط عنوان قصة المجتمع الرأسمالي، لكن الاهتمام بخلفية القصة قليل او لا يذكر. لذلك، فإن تحليلها ليس بالضرورة خاطئاً، ولكنه غير كامل. ولإكمال الصورة واكتساب فهم أوسع للرأسمالية، نحتاج إلى التفكير فيما وراء المفاهيم السائدة، ولكن أيضا أبعد من المناهج الماركسية التقليدية. والهدف هو الكشف عن العلاقات والظروف الكامنة وراء الإنتاج الرأسمالي خارج الميدان الاقتصادي وإدراجها في التحليل. أنا أعد الأربعة الاتية من بين الشروط الأساسية الحاسمة التي بدونها، لن يصبح النشاط الاقتصادي الرأسمالي ممكنا:

    الشرط الأول هو وجود خزين كبير من العمل غير المأجور المخصص لـ"إعادة الإنتاج الاجتماعي". ويشمل ذلك الأعمال المنزلية، وولادة الأطفال وتربيتهم، فضلاً عن رعاية وخدمة الكبار (العاملين بأجر، وكبار السن والمرضى، والعاطلين عن العمل)، أي جميع الأعمال التي تهدف إلى إنتاج الحياة البشرية والحفاظ عليها. وبدون "صنع الناس" هذا لن يكون هناك "ربح"، بدون هذا العمل الإنجابي لن يكون هناك "عمال"، لا "عمل"، لا عمل ضروري أو فائض، لا استغلال، لا فائض قيمة، لا تراكم رأس مال، لا ربح. لكن رأس المال لا يمنح هذه الأنشطة أي قيمة، ولا يقلق بشأن تجديد الموارد المطلوبة لها، ويتجنب بقدر الإمكان، دفع أجورها.

    الشرط الثاني "غير الاقتصادي" للرأسمالية هو مصادرة الثروة الهائلة للشعوب المقهورة، خاصة الجماعات العرقية. وتشمل هذه الثروة أشكالاً مختلفة من العمل التابع، غير الحر، المجاني أو مقابل أجر زهيد، وتشمل أيضاً الأراضي المصادرة، خزين المعادن والطاقة المنهوبة، والأجسام والأعضاء البشرية وكذلك الأطفال وقدرات الإنجاب. كل هذا يصب في الإنتاج الرأسمالي، لكن على رأس المال أن يدفع القليل أو لا يدفع شيئا مقابل ذلك. لقد اعتبر ماركس بالفعل عملية المصادرة هذه ضرورية لزيادة رأس المال في بداية تاريخ الرأسمالية. ولكن على عكس ما افترضه ماركس، فإنها لم تتوقف مع "نضوج" النظام. وعلى العكس من ذلك: بالإضافة إلى استغلال العمل المأجور ومتشابك معه، لا يزال تراكم رأس المال اليوم يعتمد على مصادر المدخلات منخفضة التكلفة التي لا تنضب. بدون مصادرة الأشخاص والمجموعات السكانية المقهورة بشكل خاص، لن يكون استغلال "العمال الأحرار" مربحاً. لكن رأس المال ينفي اعتماده على هذا النوع من الثروة، ويرفض الدفع مقابل استخدامه لها وضمان تجديدها.

    الشرط الثالث "غير الاقتصادي" للنشاط الاقتصادي الرأسمالي هو "الهدايا المجانية" المتنوعة/ أو المساهمات التي تكاد لا تصدر فواتير ذات طبيعة غير بشرية. توفر هذه الركيزة المادية التي لا غنى عنها للإنتاج الرأسمالي: أي المواد الخام التي يحولها العمل البشري، والطاقة التي تحرك الآلات، والطعام الذي يغذي أجسادنا بالطاقة ويبقيها على قيد الحياة: أي الأرض الصالحة للزراعة، الهواء، نحتاج إلى التنفس ومياه الشرب والقدرة على تخزين ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض. بدون هذه الموارد والظروف الطبيعية أو البيئية لن يكون هناك إنتاج اقتصادي أو إعادة إنتاج اجتماعي، ولا أصول يمكن مصادرتها، ولا عمل حر قابل للاستغلال، ولا رأس مال ولا رأسماليين. ومع ذلك، فإن رأس المال يتعامل مع الطبيعة كما لو أنها ليست أكثر من مصدر لا ينضب للهدايا المجانية أو الموارد الرخيصة التي يمكن الوصول إليها في أي وقت، ولكنه ليس مسؤولا عن الحفاظ عليها.

    وأخيرا، الشرط الرابع "غير الاقتصادي" للاقتصاد الرأسمالي هو جميع المنافع العامة والبنية التحتية التي توفرها الدول والمؤسسات العامة الأخرى. وهذا يشمل الأنظمة القانونية التي تحمي الملكية الخاصة وتضمن العلاقات التعاقدية والسوق الحرة؛ الأجهزة القمعية التي تضمن النظام وتقمع الانتفاضات والمعارضة وتسهل المصادرة داخل وخارج حدود الدولة؛ نظام نقدي يخزن القيمة ويسمح بالمعاملات عبر الوقت والمسافة؛ البنى التحتية للنقل والاتصالات والعديد من الآليات للتعامل مع أزمات النظام. بدون هذه السلع والخدمات العامة، لن يكون هناك نظام اجتماعي فاعل، ولا ثقة، ولا تبادل، وبالتالي لن يكون هناك تراكم مستمر لرأس المال. ومع ذلك، غالباً ما يكون رأس المال معادياً للتدخل الحكومي، ويميل إلى التهرب من دفع الضرائب الضرورية لتمويل المنافع والخدمات العامة.

    كل شرط من الشروط الأربعة المذكورة هو شرط أساسي لا غنى عنه للاقتصاديات الرأسمالية. وكل واحد منها يشمل علاقات وأنشطة اجتماعية متنوعة وكذلك أشكال الثروة الاجتماعية، والتي تشكل معاً الشرط اللازم لتراكم رأس المال. وتتطلب المؤسسات الرسمية للرأسمالية - العمل المأجور، ومجال الإنتاج، والسوق الحرة، ونظام الائتمان والمالي الموسع - دعما هائلا من الأسر والمجتمعات والطبيعة والدول الإقليمية والمنظمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

وأخيراً وليس آخراً، تعتمد الاقتصاديات الرأسمالية على مجموعة متنوعة من أشكال العمل غير المأجور والعمل بأجر منخفض، بما في ذلك العمل القسري، الذي يمارس على نطاق هائل. وبهذا المعنى، تعتبر كل هذه الجوانب جزءا لا يتجزأ من المجتمع الرأسمالي وعناصر مكوّنة له.

    وبعبارة أخرى، الرأسمالية هي أكثر من مجرد نظام اقتصادي. إنها نظام اجتماعي مؤسسي معقد يخصص تضاريس معينة للأنشطة والعلاقات الاقتصادية، ويفصل هذا عن القطاعات الأخرى "غير الاقتصادية". على الرغم من أن الأول يعتمد على الثاني،  إلا أن هذا الترابط يُرفض باستمرار. إن جزءاً من المجتمع الرأسمالي هو شكل معين من "الاقتصاد" يختلف عن (لكنه يعتمد على) "الدولة" أو النظام السياسي. انه قطاع "إنتاج اقتصادي" يختلف عن (لكنه يعتمد على) قطاع "إعادة الإنتاج الاجتماعي"؛ مجموعة من شروط الاستغلال التي تختلف عن (لكنها تعتمد على) عمليات مصادرة خلفية؛ ومجال محدد اجتماعيا وتاريخيا للنشاط البشري يختلف عن (ولكنه يعتمد على) الركيزة المادية المفترضة غير التاريخية للطبيعة غير البشرية.

    هنا نترك وراءنا المفهوم الضيق للرأسمالية كشكل اقتصاد. وإذا تم فهم الرأسمالية على أنها نظام اجتماعي مؤسسي، فإننا نصل إلى رؤية أوسع، والتي بدورها لها تأثيرات كبيرة على مشروع إعادة التفكير في الاشتراكية. بدءا، يغير هذا التغيير في الرؤيا، بل يوسع بالفعل فهمنا لما هو خطأ في الرأسمالية. بعد ذلك، سنجد أنه سيصبح من الأسهل فهم ما يجب القيام به لتحولها والتغلب عليها.

ما الخطأ في الرأسمالية؟ رؤية موسعة

    وفقا للمقاربات الماركسية التقليدية، تتميز الرأسمالية بثلاثة نواقص أو عيوب رئيسية: الظلم واللاعقلانية وانعدام الحرية. دعونا نلقي نظرة على هذه النقاط على التوالي.

    في المفهوم الضيق للرأسمالية، إن الظلم الأكبر هو استغلال رأس المال لطبقة العمال الأحرار والمحرومين من ممتلكاتهم. إنهم يعملون لساعات طويلة بدون أجر وينتجون ثروة هائلة ليس لهم نصيب فيها. إن طبقة الرأسماليين هي التي تستفيد من عملهم، والتي تستحوذ على فائض عملهم وفائض القيمة الذي ينتجونه، وتعيد استثمار الأخير لأغراضها الخاصة، أي من أجل تراكم المزيد من رأس المال. والنتيجة هي نمو قاسٍ لا يتزعزع لرأس المال كقوة معادية تُخضع العمال الذين ينتجون رأس المال لسلطتها. وفقا لوجهة النظر الماركسية التقليدية، فإن استغلال العمل المأجور في الإنتاج هو الظلم المركزي في الرأسمالية. ان مسرح الجريمة هو الاقتصاد الرأسمالي، ولا سيما مجال الإنتاج.

    يقودنا هذا إلى النقطة الثانية: وفقًا للمفهوم الضيق للرأسمالية، تكمن لاعقلانيتها في ميلها المتأصل إلى إحداث أزمات اقتصادية. ان النظام الاقتصادي القائم على التراكم اللامحدود لفائض القيمة الذي يتم انتاجه في شكل ربح هو نظام غير مستقر بطبيعته. يؤدي السعي لتحقيق أقصى قدر من الأرباح من خلال زيادة الإنتاجية بمساعدة التقدم التقني مراراً وتكراراً إلى انخفاض معدل الربح ويؤدي بانتظام إلى أزمات فيض الإنتاج والتراكم المفرط. إن محاولات السيطرة على هذه المشكلات، بواسطة التمويل، تؤجل فقط "ساعة الحساب" وتزيد من حدة العواقب، كلما طال تأخر الكارثة. وبشكل عام، يمكن ملاحظة أن تطور الرأسمالية يتميز بأزمات اقتصادية دورية: من خلال دورات الازدهار والكساد، وانهيارات سوق الأوراق المالية، والذعر في السوق المالية، وسلاسل الإفلاس، والدمار الشامل للقيمة ومراحل البطالة الجماعية.

    النقطة الثالثة لنقد تحليلات الرأسمالية الحالية، والتي يجب أن يتم سردها هنا، هي ان الرأسمالية أيضاً غير ديمقراطية بطبيعتها. ومن المسلم به أنها كثيراً ما تعد بعمليات ديمقراطية على المستوى السياسي. لكن هذا الوعد بالديمقراطية يتم تقويضه بشكل منهجي بسبب عدم المساواة الاجتماعية والسلطة الطبقية. وفي الرأسمالية، على سبيل المثال، لا يكون موقع العمل عادة مكاناً تمارس فيه الإدارة الذاتية الديمقراطية. وعلى العكس: هنا يقرر رأس المال والعاملون يطيعون.

    من وجهة نظر نقاد الرأسمالية التقليديين، ليس مصادفة أن ترسخ الرأسمالية هذه الشرور الثلاثة: أولاً، تعيش الرأسمالية من الاستغلال المنهجي وقمع العمال المأجورين. ثانياً، الأزمات الاقتصادية المتكررة متأصلة هيكلياً فيها. وثالثاً، إنها غير ديمقراطية للغاية في أساسها. وعلى أية حال، فإن الديناميكيات المتأصلة في الاقتصاد الرأسمالي مسؤولة عن المشكلة المعنية. ويُنظر إليها على أنها جزء من الحمض النووي للنظام الرأسمالي، وتُنسب فقط إلى شكل التنظيم الاقتصادي.

    وهنا أيضا، يمكن القول مرة أخرى: التحليل ليس خاطئاً، ولكنه غير مكتمل إلى حد ما، ففي حين تتم تسمية الشرور الاقتصادية الأساسية للرأسمالية بشكل صحيح، يتم استبعاد الظلم واتجاهات الأزمات وأشكال العبودية، التي لا تنشأ مباشرة في المجال الاقتصادي، ولكنها تشكل أسسا للمجتمعات الرأسمالية. وسنحصل على رؤية واضحة لها عندما نوسع مفهومنا عن الرأسمالية.

يشير المفهوم الموسع للرأسمالية إلى سلسلة كاملة من المظالم المنهجية الإضافية. وأسبابها ليست بالضرورة في الهياكل الاقتصادية نفسها، بل تعود إلى التوتر في العلاقة بين الاقتصاد الرأسمالي وظروفه غير الاقتصادية. ومن الأمثلة على ذلك فصل مجال الإنتاج الاقتصادي، الذي عادةً ما يتقاضى فيه العمال أجرا، عن مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي، الذي يكون عادة مجانيا، ويكون أجره تعاطفا، أو يُكافأ بـ"الحب". ان "تقسيم العمل" الكلاسيكي بين الجنسين هو أساس عدم التماثل الجندري الأساسي في قلب المجتمعات الرأسمالية. إنه يؤسس التبعية الاجتماعية للمرأة، والأنظمة الثنائية بين الجنسين، والتمايز الذي ما زال سائدا.

     هكذا تتعامل المجتمعات الرأسمالية مع الانقسام الهيكلي بين "العمال الأحرار"، الذين يمكنهم مقايضة قوة عملهم مقابل أجر يغطي تكلفة إعادة إنتاجهم، وجميع "الآخرين" التابعين، أي الأشخاص الذين يستطيع الرأسمال مصادرة عملهم وثرواتهم بسهولة، لأنهم غير قادرين على فرض الحق في السلامة الصناعية، والأجر المناسب.. الخ. وتوفر هذه المجموعة لرأس المال طاقة، ومواد خام مجانية، وتدفع بالأرباح نحو الأعلى. هذا التسلسل الهرمي للوضع، التمييز بين المستغل "المجرد" وأولئك الذين تمت مصادرتهم بشكل مباشر، هو أمر أساسي بالنسبة للمجتمع الرأسمالي. يتطابق التقسيم الفرعي تقريباً ولكن بشكل واضح مع التسلسل الهرمي العالمي للعرق والأصل القومي ولون البشرة ويدعم مجموعة كاملة من المظالم الهيكلية، من الاضطهاد العنصري إلى الإمبريالية القديمة والجديدة ونزع ملكية الشعوب الأصلية، وصولا إلى الإبادة الجماعية.

     تميّز المجتمعات الرأسمالية أيضاً بشكل واضح جداً بين البشر والطبيعة غير البشرية، والتي لم تعد تنسبها إلى نفس الوضع الأنطولوجي. ويتم حصر الطبيعة غير البشرية في وظيفتها كمخزن للمواد الخام وتتعرض لعمليات استخراج وحشي بالإضافة إلى الاستغلال غير عادي. هذا ليس تجاهلا مطلقا للطبيعة (والكائنات الحيوانية) فقط، بل هو ظلم كبير للأجيال الشابة والمستقبلية من الناس الذين نترك لهم كوكباً غير صالح للسكن بشكل متزايد.

    وفي النهاية، تصر الرأسمالية على التمييز الهيكلي بين "الاقتصادي" و"السياسي". من ناحية، لدينا قوة رأس المال الخاص لتنظيم الإنتاج باستخدام سوط الجوع "فقط". ومن ناحية أخرى، لدينا سلطة الدولة التي تدعي احتكار العنف وإنفاذ القانون. لكن مع هذا الفصل، يتم تضييق نطاق السياسة، وكما سأبين، تختفي سلسلة من الأسئلة الجوهرية من أجندة الرأي العام. سأعود إلى هذه النقطة لاحقا. ولأن بعض المسؤوليات والسلطات تنتقل إلى رأس المال، فإن المجتمعات الرأسمالية اليوم ليست سوى صورة فقيرة ومتداعية للديمقراطية. عيب آخر غير مقبول للرأسمالية هو أن غالبية السكان، الذين يتم التعامل معهم في أماكن أخرى كمواطنين مسؤولين، يخضعون ببساطة للحكم التعسفي لرأس المال.

    لذلك فإن رؤية أوسع للمجتمع الرأسمالي تلفت انتباهنا إلى قائمة كاملة من مشاكل الظلم المهملة للغاية، التي لا تختلف عن الاستغلال الطبقي، وهي ليست عشوائية بل هيكلية في طبيعتها. ان بديلا اشتراكيا للمجتمع الرأسمالي يجب ان يعالج ويحل هذه المشاكل. لذلك، لا يكفي تغيير الشكل التنظيمي للاقتصاد فقط؛ فثمة حاجة أيضاً لعلاقة جديدة بين مجالي الإنتاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي، وبالتالي إلى أنظمة الجندر والاجناس. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يعني وضع حد لعقلية الاستيلاء عند رأس المال، و"الهدايا المجانية" من الطبيعة، ومصادرة السكان الأصليين والجماعات العرقية الأخرى وثرواتها. وفي نهاية المطاف، من المهم توسيع نطاق الادارة الذاتية الديمقراطية بشكل كبير، مقارنة بالوضع البائس الحالي. باختصار، يمكن في هذه المرحلة القول: إذا كان على الاشتراكية أن تعالج كل مظالم الرأسمالية، فلا يكفي تغيير النظام الاقتصادي الرأسمالي. مطلوب تغيير في النظام الاجتماعي الرأسمالي بأكمله.

    وهناك استنتاجات أخرى يمكن استخلاصها من مفهوم موسع للرأسمالية. تؤثر أيضاً على ما نفهمه باعتباره احدى أزمات الرأسمالية. على سبيل المثال، يتم التركيز على بعض نزعات التدمير الذاتي المتأصلة في النظام، التي تتجاوز حدود النطاق الاقتصادي. أولاً، يمكن تحديد نزعة هيكلية تعرض التكاثر الاجتماعي للخطر بشكل متكرر. وفي الوقت الذي يسعى فيه رأس المال إلى تجنب الدفع مقابل أعمال التمريض والرعاية، فإن المسؤولين بشكل أساسي عن هذه المهام في مجتمعاتنا يتعرضون بشكل متزايد لضغوط هائلة، اي العوائل والأحياء والجماعات، وقبل كل شيء النساء. ويؤدي شكل التمويل الحالي للمجتمع الرأسمالي إلى تفاقم مثل هذه الأزمة، لأنه من ناحية يضغط من أجل تفكيك المكتسبات والخدمات الاجتماعية العامة، ومن ناحية أخرى يطالب الأسر والنساء، العمل لساعات أكثر فأكثر.

    ومع فهم موسع للرأسمالية، لم يعد بالإمكان التغاضي عن الميل المتأصل في النظام إلى تفاقم الأزمة البيئية. يبذل رأس المال كل ما في وسعه حتى لا يضطر إلى دفع ثمن الموارد الطبيعية التي يستخدمها بالشكل المناسب. ويدفع رأسمال ملوحة التربة وتلوث المحيطات إلى مستوى غير مسبوق، وهو يعمق بشكل دائم تسرب الكربون وقدرات تخزين ثاني أكسيد الكربون في الأرض. ومع لجوئه الدائم إلى استنزاف المواد الخام الطبيعية ورفضه توفير الظروف لتجديدها أو استبدالها، فإنه يزعزع استقرار التفاعل الأيضي بين مكونات الطبيعة البشرية وغير البشرية. ولست بحاجة إلى توضيح مدى راهنية الأزمة البيئية الحالية.

    إن ميل الرأسمالية إلى تعزيز الأزمات البيئية وتلك الخاصة بإعادة الإنتاج الاجتماعي لا ينفصل عن اعتمادها الأساسي على مصادرة ثروات الجماعات التي تعاني من اضطهاد عنصري. يسرق الرأسمال أراضيهم ومعادنهم ويستفيد منهم عبر مختلف أشكال اعمال السخرة. ويتم استخدام الأماكن التي يعيشون فيها بشكل متزايد كمدافن  للنفايات السامة. وينظمهم بشكل متزايد في شكل سلاسل التوريد العالمية، ويقومون بأعمال الرعاية لقاء أجر منخفض في المراكز الرأسمالية. والنتيجة هي تشابك الأزمات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية مع الإمبريالية والتضاد العنصري العرقي. لقد وضعت الليبرالية الجديدة معايير جديدة في هذا الصدد أيضا.

    وفي النهاية، تكشف الرؤية الموسعة للرأسمالية عن حساسيتها المتأصلة في مواجهة الأزمات السياسية. في هذه الحالة أيضاً، يحاول رأس المال الاستفادة من السلع والموارد العامة دون الحاجة إلى دفع ثمنها. من خلال القيام بكل ما في وسعه لتجنب دفع الضرائب وإضعاف القدرة التنظيمية للحكومة، ويقوض رأس المال الخزينة العامة التي يعتمد وجوده عليها. وفي سياق تمويل الرأسمالية، وصلت هذه العملية إلى مستوى جديد تماماً. غالباً ما تكون الشركات العملاقة العاملة دولياً متفوقة على سلطات الدولة المقيدة إقليمياً والمؤسسات العامة من نواحٍ عديدة. ونرى كيف أن رأس المال المالي العالمي يضبط ايقاع الدول، ويتجاهل نتائج الانتخابات السياسية (انظر مثال اليونان) (فرض شروط المؤسسات المالية لإسقاط حكومة اليسار- المترجم) ويمنع الحكومات من تبني المصالح المشروعة لشعوبها. وهذا يغرق السياسة في أزمة عميقة تتعلق بمفهومي الشرعية والهيمنة، حيث يبتعد الناس في جميع أنحاء العالم عن النظام الحزبي القائم والفطرة السليمة بشكل جماعي.

    ويمكننا التأكيد على أن المفهوم الموسع للرأسمالية يزيد من عمق رؤية اتجاهات أزماتها المتنوعة، والتي لا يمكن حصرها في "الاقتصاد". استناداً إلى كارل بولاني (اقتصادي نمساوي - مجري - المترجم)، وجيمس أوكونور (سياسي امريكي)، أفهمها بدلاً من ذلك على أنها تناقضات "عابرة للمجالات" تنشأ وتحدث في المواقع التي تربط الاقتصاد الرأسمالي بالقطاعات غير الاقتصادية التي يقوم عليها، أو تفصل بينهما. بعبارة أخرى: تميل الرأسمالية إلى تقويض أو تدمير أو إضعاف (على أية حال زعزعة استقرار) شروطها الخاصة. إنها تقطع الغصن الذي تقف عليه. مرة أخرى، ينبغي ألا ننسى هذا عندما نتحدث عن الخطأ في المجتمع الرأسمالي وما يجب أن تتغلب عليه الاشتراكية.

    أخيراً وليس آخراً، يجب الإشارة الى عجز الديمقراطية الهائل في ظل الرأسمالية. ان المشكلة ليست "فقط" في أن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسلطة الطبقية يحبطان إمكانية الحقوق المتساوية لجميع الأصوات سياسيا. لا تزال المشكلة "فقط" هي أن المدراء لا يزالون أصحاب الكلمة الفصل في قاعات المصانع. على الأقل بنفس القدر من الأهمية، إن لم يكن أكثر أهمية، أن القضايا التي لها عواقب بعيدة المدى لا تخضع لنقاش وصنع القرار الديمقراطي. كيف نريد تنظيم إنتاج السلع والقيم التي نحتاجها، كيف ننجح في تلبية الاحتياجات البشرية المختلفة؟ ما هو شكل الطاقة التي يجب توفيرها وما نوع العلاقات الاجتماعية المطلوبة؟ كيف نريد ربط قطاعات الإنتاج، بالإنتاج الاجتماعي للبشر وللطبيعة غير البشرية؟ وربما الأهم من ذلك كله: كيف نستخدم فائض القيمة الاجتماعية التي ننتجها بشكل جماعي؟ في المجتمعات الرأسمالية ليس لدينا أي رأي في هذه الأمور. عادة ما يقررها المستثمرون الذين يحرصون على الحد الأقصى من التراكم من وراء ظهورنا.

    إن رؤية أوسع للمجتمع الرأسمالي توسع أيضاً رؤيتنا لعيوب النظام. وإذا كانت الاشتراكية جادة في التغلب على هذه الشرور، فإنها تواجه مهمة شاقة. وبصفتنا اشتراكيين، لا يتعين علينا فقط ايجاد نظام اجتماعي جديد يمكنه إنهاء السلطة الطبقية، بل نحتاج أيضا إلى التغلب على التفاوتات المرتبطة بالجندر والهرمية الجنسية والقمع العنصري/ الإثني/ الإمبراطوري وأشكال مختلفة من الحكم السياسي. والتحدي الآخر هو إلغاء المؤسسات التي تخضع لاتجاهات الأزمة المختلفة - ليس فقط الأزمات الاقتصادية والمالية، ولكن أيضا الأزمات البيئية، وأزمات إعادة الإنتاج الاجتماعي وأزمات السياسة. وليس هناك شك في أن اشتراكية القرن الحادي والعشرين يجب أن تضمن توسيع وتعميق الديمقراطية. إنها ليست مجرد مسألة إضفاء الطابع الديمقراطي على عمليات صنع القرار ضمن الإطار السياسي المحدد. ما نحتاجه هو دمقرطة العمليات التي يتم فيها تحديد ما ينتمي إلى عالم السياسة وما لا ينتمي إلى عالمها.

ما هي الاشتراكية؟ رؤية موسعة

    إن مشروع إعادة اكتشاف الاشتراكية للقرن الحادي والعشرين ليس لعبة أطفال، بل تحدٍ لا ينبغي الاستهانة به. إنه بالتأكيد أكبر من أن يتعامل معه شخص واحد أو مجموعة، حتى لو كانوا منظرين متميزين. إنّ هذا المشروع لن ينجح إلا من خلال الجهود المشتركة للنشطاء السياسيين والمنظرين. وللقيام بذلك، يتعين علينا الجمع بين النتائج التي توصلنا إليها عبر النضالات الاجتماعية والأفكار البرامجية والتنظيم السياسي. ومع ذلك أود أن أوجز، فيما يلي، ثلاثة اعتبارات تؤثر على قضايا: حدود المؤسسات وفائض القيمة المجتمعية ودور الأسواق.

    عند السؤال عن كيفية فصل "المجالات" المفترضة (مثل مجالي الاقتصاد والسياسة) عن بعضها البعض، فإنني أعتبرها ضرورية على الأقل، مثل التفكير في طرق تنظيمها الداخلية. بدلاً من التركيز حصرياً أو بشكل أحادي الجانب على تنظيم "الاقتصاد"، يتعين على الاشتراكيين التفكير في العلاقة بين "الاقتصاد" وظروفه الخلفية: في مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي، وعلى أشكال الثروة الطبيعية غير الرأسمالية وعلى السلطة العامة. ومن أجل التغلب على جميع الأشكال المؤسسية الرأسمالية غير العقلانية، انعدام الحرية والظلم الرأسمالي، علينا كاشتراكيين أن نكتشف كيف يمكننا إعادة تشكيل العلاقة بين الإنتاج وإعادة الإنتاج، والمجتمع والطبيعة، وبين الاجتماعي والسياسي.

    لا أريد القول إن الاشتراكية يمكنها ببساطة تجاهل جميع الاختلافات بين هذه المجالات. وينبغي أن تكون مساعي الاتحاد السوفياتي هنا لإلغاء التمييز بين السياسي والاقتصادي بمثابة تحذير عام. وعلى الرغم من ذلك لا يمكننا تجنب وضع التقسيمات المؤسساتية لمجتمعنا الرأسمالي اساسا في سؤال، لتنظيمها من جديد. أحد الاحتمالات، على سبيل المثال، هو إعادة تعريف هذه الأمور بطريقة ما، كأن تصبح الأمور المحسوبة الآن بشكل واضح على الاقتصاد قضايا سياسية أو اجتماعية. يمكننا أيضاً محاولة تخفيف بعض الحدود المؤسسية بشكل أكبر من أجل ضمان أن المجالات المختلفة تتوافق مع بعضها البعض بشكل أفضل، أي أنها تتصرف بأقل عدائية مع بعضها البعض. وما ينبغي على المجتمع الاشتراكي، في جميع الأحوال تجاوزه، هو ميل الرأسمالية إلى "ألعابها الصفرية" يتم فيها تغذية الإنتاج بما انتزع من قبل من الطبيعة أو إعادة الإنتاج الاجتماعي.

    والأكثر أهمية هو تحديد الأولويات بشكل مختلف داخل هذه المجالات. بينما في المجتمعات الرأسمالية تخضع متطلبات إعادة الإنتاج الاجتماعي والبيئي لمتطلبات إنتاج السلع الموجهة نحو تراكم رأس المال، يجب على الاشتراكية أن تقلب المعادلة: يجب أن تأتي احتياجات الناس، وحماية الطبيعة وحق تقرير المصير الديمقراطي في مجتمعاتنا في المقام الأول، وليس الكفاءة والنمو الاقتصادي. وهذا يعني أنه يجب علينا أن نضع في المقدمة وبوضوح الأشياء التي يدفعها رأس المال إلى الخلفية وينكرها.

    وفي نهاية المطاف، يجب على الاشتراكية الملائمة للقرن الحادي والعشرين إضفاء الطابع الديمقراطي على السيرورات ذاتها التي تحدد تعريف وإعادة تشكيل الحدود المؤسسية. ومن الآن فصاعداً، من المهم جعل المهمة "ما وراء السياسة" (ما يخص العالم والطبيعة) لإعادة تنظيم المجالات الاجتماعية المختلفة وعلاقتها ببعضها البعض موضوعا للمناقشات الجماعية: ينبغي على الرأي الديمقراطي، أن يقرر بنفسه الأمور التي يجب التعامل معها، وفي أي ترتيب وفي أي الفضاءات السياسية والاجتماعية يجب معالجتها. وحتى لو كانت الوحدات الإقليمية التي تطورت بمرور الوقت، مثل "الدول القومية" لا تزال تحتفظ بمبرر معين، لا يجب بالضرورة إلغاؤها بالكامل، فإن الأمر يتعلق بإعادة هيكلتها من خلال وحدات سياسية محددة وظيفياً. يجب أن تعمل هذه الوحدات السياسية على مستويات مختلفة، وقبل كل شيء يجب أن تلتزم بمبدأ أكبر مشاركة ممكنة. ومن حيث المبدأ، يجب أن تقوم إعادة التنظيم الاشتراكي للعلاقات الاجتماعية على مبدأ عدم الهيمنة. ومن المهم أن نقول وداعا لأشكال الاستغلال والحكم القديمة التي تسود النظام الاجتماعي الرأسمالي بأكمله، وأن نتسلح ضد كل علاقات الهيمنة التي ربما تستمر مواجهتها في المستقبل.

    بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تسترشد عملية إعادة التنظيم الاجتماعي بقدر الإمكان بمبدأ "ما تستهلكه، يجب أن تستبدله". وفي المجتمع الاشتراكي لا ينبغي أن يكون هناك مكان "للانتفاع المجاني"، أي لاستخدام الموارد دون مقابل، وكذلك "للتراكم البدائي". في ظل الاشتراكية، يجب التأكد من أن ظروف الإنتاج منظمة بشكل مستدام، وهو أمر تتجاهله الرأسمالية بشكل إجرامي. وبعبارة أخرى: المجتمع الاشتراكي سيكون ملزماً بتجديد أو إصلاح أو استبدال جميع الموارد التي يستخدمها ويستهلكها في الإنتاج والإنتاج الاجتماعي. وهذا ينطبق على أعمال الرعاية والعمل الإنتاجي بالمعنى الضيق، وكذلك العمل الذي ينتج قيم الاستخدام والسلع. وينبغي على المجتمع الاشتراكي أن يعوض الثروة التي يجنيها "من الخارج"، ومن المناطق "الأطراف" ومن المجموعات السكانية وكذلك من الطبيعة. كما يجب أن يهتم بالحفاظ على جميع العمليات السياسية والمنافع العامة التي نحتاجها من أجل تلبية الاحتياجات المختلفة وصيانتها. بعبارة أخرى: لا لمزيد من استغلال تلك المناطق المنبوذة والمحرومة والمدفوعة حالياً إلى الخلف في المجتمع الرأسمالي. وهذا أيضاً شرط أساسي مهم لمواجهة الظلم بين الأجيال المرتبط بالمجتمعات الرأسمالية. إذا نظرنا فقط إلى كل هذا يمكن أن تتغلب اشتراكية القرن الحادي والعشرين على اللاعقلانية الرأسمالية ومؤسساتها المعرضة للأزمات.

    يقودني هذا إلى نقطتي الثانية، والتي تستحوذ على الاهتمام الاشتراكي الكلاسيكي، أي فائض القيمة الاجتماعية. إن فائض القيمة هو أساس كل الثروة ينتجها المجتمع، عندما ينتج المجتمع أكثر مما يحتاجه مباشرة، للوصول الى المستوى والشكل الراهن للإنتاج الاجتماعي. ومن المعروف ان فائض القيمة في المجتمعات الرأسمالية يعد ملكية خاصة للطبقة الرأسمالية. وكقاعدة عامة، يتم استخدام فائض القيمة لإنتاج المزيد من فائض القيمة. وهذه العملية تعيد نفسها مراراً وتكراراً، فهي لا تعرف حدوداً، لكنها، كما نعلم، تنطوي على عدد من المشاكل: وهي قبل كل شيء، غير عادلة ومدمرة للذات.

    ولهذا يجب على المجتمع الاشتراكي أن يبحث عن طرق تمكنه من التحكم في الفائض الاجتماعي وإعادة توزيعه بطريقة ديمقراطية. وهذا يتطلب اتخاذ قرار جماعي يسمح لنا أن نقرر ما الهدف الذي يجب أن تستخدم من أجله الفوائض والموارد الحالية وما مقدار فائض القيمة الذي يجب أن ينتجه المجتمع، ومدى ضرورة انتاج فائض القيمة مستقبلا. بعبارة أخرى، لدى الاشتراكية مهمة كسر حتمية النمو في النظام الرأسمالي. هذا لا يعني حتى الآن أنه يتعين علينا أن نؤسس لـ "تراجع النمو" كضرورة جديدة مضادة. وسنكسب الكثير إذا نجحنا في تحويل مسألة النمو (إذا كان لا بد من النمو، فما مقدار النمو، وما هو نوعه، وفي أي مجالات ولأي غرض؟) إلى سؤال سياسي. يجب أن تسعى الاشتراكية للقرن الحادي والعشرين إلى تحويل جميع الموضوعات التي يتم تناولها هنا إلى مادة نقاش ديمقراطي: ماذا وكيف وكم نريد إنتاجه في المستقبل؟ وأي جزء من ساعات العمل المتحققة نريد استخدامه لإنتاج فائض القيمة؟ وأبعد من ذلك: ما الذي نحتاجه فعلاً لإعادة إنتاج مجتمعاتنا والحفاظ عليها في المستوى الحالي؟

    إن تنظيم فائض القيمة الاجتماعي بشكل مختلف سيكون له أيضاً فوائد مرتبطة بالوقت: ما الذي لا يمكننا فعله في المستقبل طوال الوقت المتبقي لنا عندما ينجز العمل الضروري اجتماعياً، العمل الضروري لتلبية احتياجاتنا الإنسانية الأساسية؟ في كل التصورات الاشتراكية الكلاسيكية عن الحرية، بما في ذلك تصورات ماركس، فإن وقت الفراغ المتاح هو منظور مركزي. ومع ذلك، أشك في أنه سيكون لدينا قدر كبير، في المراحل الأولى من الاشتراكية، من وقت الراحة والفراغ لأننا سنواجه العديد من الفواتير المفتوحة الموروثة من الرأسمالية. على الرغم من أن الرأسمالية تفتخر بإنتاجيتها العالية، وحتى ماركس أدرك هذا كعامل حاسم لزيادة فائض القيمة، فان شكوكي باقية. المشكلة أن ماركس لم يأخذ في الحسبان سوى فائض القيمة الذي يصادره رأس المال، والناتج عن وقت العمل المأجور، الذي ينتج فيه العاملون القيمة التي تغطي تكاليف معيشتهم. ولم يول ماركس اهتماماً كبيراً "بالهدايا" و"المساومات" المختلفة التي يبتلعها رأس المال دون أن يرف له جفن، ناهيك عن مشكلة رفض رأس المال الدائم دفع تكاليف إعادة إنتاج العمال الاجتماعي. ماذا لو تم تضمين كل هذه التكاليف في تقييمنا الشامل للرأسمالية؟ ماذا لو كان على رأس المال أن يدفع مقابل جميع أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، وجميع تدابير الإصلاح البيئي والتجديد، والمنافع العامة، إذا كان عليه أن يعيد الثروة المصادرة لضحايا العنصرية؟ ماذا سيتبقى من فائض القيمة الذي سيصادره رأس المال في النهاية؟ هذا بالطبع سؤال بلاغي. لا أعرف من أين أبدأ للحصول على إجابة مرضية له. ليس لدي شك في جانب واحد: ان الفاتورة المفتوحة، والموروثة من الرأسمالية، بعد قرون من الاستغلال المجاني، والتي تهدد المجتمع الاشتراكي، ستكون طرية للغاية.

    إن جزءاً من هذه الفواتير المفتوحة هو كل الاحتياجات البشرية غير المشبعة في هذا العالم: هناك نقص في كل مكان، في الرعاية الصحية الجيدة، والسكن الكافي ميسور التكلفة، المساواة في الحصول على طعام صحي (ولذيذ)، والتعليم، والتنقل، وغيره الكثير. كل هذا لا ينبغي أن يُفهم على أنه استثمار غير ضروري في قوة العمل البشري، بل باعتباره ضرورة قصوى. وينطبق الشيء نفسه على المهمة العاجلة وغير القابلة للتأجيل المتمثلة في تحرير الاقتصاد العالمي من اعتماده الأساسي على الوقود الأحفوري. وأساسا، تأخذ مسألة ما هو ضروري اجتماعيا وما هو غير ضروري أو غير اساسي منحى مختلفاً تماماً عندما يتم توسيع الرؤية في تحليل الرأسمالية.

    الأمر نفسه ينطبق على مسألة دور الأسواق في المجتمع الاشتراكي. يمكن اختزال الإجابة الناتجة عن العرض الذي قدمته ببساطة في الاتي: لا توجد أسواق في الأعلى ، ولا توجد أسواق في الأسفل، ولكن ربما في "المساحات". وأود أن أوضح ما أعنيه.

    عندما أتحدث عن الأعلى، فإنني مهتمة بتخصيص فائض القيمة الاجتماعي. ولنفترض ان هناك فائض قيمة اجتماعيا يجب توزيعه، فيجب أن يُنظر إلى ذلك على أنه شيء جماعي، كشيء انتجه المجتمع ككل. ولا يحق لأي فرد، شركة، ودولة امتلاكه أو التصرف به بمفردها. نحتاج الى عمليات صنع القرار والتخطيط الجماعية من أجل تحقيق (إعادة) توزيع عادل لفائض القيمة المنتج بشكل جماعي. ويجب أن تكون هذه العملية ديمقراطية وشفافة قدر الإمكان. وقد لا تلعب هنا آليات السوق دوراً. وهذا يعني: في الأعلى ليست هناك حاجة للأسواق أو للملكية الخاصة.

    وينطبق الشيء نفسه على "الأسفل"، وأعني بها مستوى الاحتياجات الأساسية: المسكن، الملبس، الغذاء، التعليم، الصحة، توفير الطاقة، النقل الاتصال، والأنشطة الترفيهية. وليس لدي أوهام بأنه من الممكن تحديد ما نعنيه بالاحتياجات الأساسية بشكل نهائي، وما هو المطلوب بالضبط لإشباعها. وهذا ينبغي أن يكون أيضا مادة لصراع ديمقراطي ونقاش وصنع قرار. ولكن بغض النظر عن ماهية وكيفية القرار: الوصول إلى البنى التحتية والخدمات الحيوية، ينبغي أن ينظمه القانون وألا يكون مرتبطا بالقدرة على دفع التكاليف. هذا يعني أن قيم الاستخدام التي ننتجها من أجل تلبية هذه الاحتياجات يجب ألا تُعامل على أنها سلع، ولكن كمنافع عامة. وبالمناسبة ولهذا السبب، أنا لست من انصار الدخل الأساسي (غير المشروط). ينص الأخير على دفع مبلغ شهري معين للناس حتى يتمكنوا من شراء أشياء لتغطية احتياجاتهم الأساسية. وبهذا يتخذ إشباع الحاجات الأساسية شكل سلعة. في مجتمع اشتراكي، ينبغي أن يكون الهدف هو النظر إلى الاحتياجات الأساسية على أنها خيرات عامة. هذا يعني: لا وجود لأسواق في النهاية السفلى.

    أي لا وجود للأسواق في الأسفل والأعلى. ولكن ماذا عما بينهما؟ ليس لدي موقف واضح ونهائي من هذه القضية. أتصور ما بين الاثنين كنوع من المختبر الذي يمكننا فيه تجربة خيارات وأساليب مختلفة، كمساحة يمكن أن تجد مكانا فيها "اشتراكية السوق" مع التعاونيات والمشاعات والجمعيات والمشاريع ذاتية الإدارة. وأظن أنه في السياق الذي قدمته، ستصبح العديد من الاعتراضات اليسارية الكلاسيكية على الوجود وهدف الأسواق غير ضرورية أو على الأقل ستضعف. لان هذه المساحات الوسطية لن تعتمد أو تحدد بواسطة آليات تخدم تراكم رأس المال أو المصادرة الخاصة لفائض القيمة الاجتماعي. بمجرد حدوث تنشئة اجتماعية وإلغاء التسليع في الأعلى والأسفل، أعتقد أنه سيكون من الممكن تحقيق تحول في وظيفة ودور الأسواق في المساحات الوسطية. حتى وان كنت لا أتمكن الآن من قول كيف ينفذ ذلك بالضبط، فبالنسبة لي يبدو هذا النهج أكثر قبولا.

    من الواضح بالنسبة لي أن مفهوم الاشتراكية الذي أشرت إليه هنا متواضع إلى حد ما، ولا يزال بدائياً. وما حاولته في هذه المساهمة هو صياغة إجابات أولية غامضة لمجموعة فرعية صغيرة جدا من الأسئلة الضرورية. وآمل أن يكون لهذه المساهمة بعض القيمة. وآمل بشكل خاص أن أكون قد أثبتت بشكل مقنع أن مثل هذا المشروع يستحق متابعة في القرن الحادي والعشرين أيضاً. وينبغي أن تكون "الاشتراكية" أكثر من مجرد شعار. لأن الرأسمالية الحالية على وشك تدمير كوكبنا وآفاقنا في حياة حرة وديمقراطية وجيدة، يجب أن تصبح "الاشتراكية" بديلاً حقيقياً للنظام. سأكون سعيدة أيضاً إذا بينت بوضوح لماذا لم يعد فهم المدرسة القديمة للاشتراكية مفيداً اليوم. وانه فقط من خلال تحليل موسع للرأسمالية يمكن تطوير فهم مناسب وحديث للاشتراكية يمكن له أن يحقق، بشكل عادل، جميع احتياجات وآمال القرن الحادي والعشرين.

*- نشر البحث باللغة الألمانية في كانون الأول 2020 في موقع مجلة روزا لوكسمبورغ الصادرة عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية. ونشرت هذه الترجمة لأول مرة في مجلة الثقافة الجديدة العدد 421 أيار 2021

عرض مقالات: