لم تتوقف سلسلة الإغتيالات منذ الإطاحة بالنظام الاستبدادي السابق وحتى الآن، والتي طالت مئات من العراقيين من شتى المنحدرات. وتوجه أصابع الإتهام، بل وحتى من يعترف بارتكابها، صوب التيارات الدينية المتطرفة التي نظّرت ووفرت أسباب تنفيذ هذه الجرائم "شرعيا" ومادياً، وبدعم من قوى من خارج الحدود وبتنفيذ من أطراف عراقية ومن ضمنها فلول النظام السابق وأجهزته الأمنية، التي دعت أتباعها منذ الساعات الأولى من سقوط النظام، إلى الانتقال إلى صفوف التيارات الدينية المتطرفة، وإطالة اللحى وارتداء العمائم وانتحال صفات أدعياء الدين، أو من المتطرفين ذوي الغلو المذهبي لتنفيذ مآربهم عن طريق الهيمنة على مقاليد الأمور وتحطيم الدولة العراقية ومؤسساتها والوقوف بوجه أية محاولة لنقل البلاد إلى دائرة الدول المؤسساتية والديمقراطية وحكم الشعب. لقد استغلت هذه القوى الدينية المتطرفة على مختلف ألوانها تراجع الوعي السياسي والأخلاقي في المجتمع جراء ممارسات سياسة النظام الاستبدادي المنهار، وتزايد فرص التدخل الخارجي في الشأن الداخلي العراقي لتحقيق مآربها.

ومنذ سقوط النظام السابق شهد العراق موجة فظيعة من السطو على الممتلكات العامة من أموال ومعدات عسكرية من قبل هذه التيارات الدينية المتطرفة أمام أنظار الغزاة، وتحولت هذه المجاميع إلى ميليشيات تمتلك السلاح والمال وزادت قدرتها بفعل الدعم من الخارج وخاصة من حكام إيران وتركيا وبعض دول الخليج، لتحول العراق إلى ميدان خطير لتصفية الحسابات السياسية والصراع على النفوذ بين هذه الميليشيات المسلحة التي أضحت جزءاً وتابعاً لأجندة هذه الدولة الإقليمية أو تلك حسب لونها الطائفي والمذهبي. وفي ظل ضعف النظام السياسي الذي خلف النظام الاستبدادي السابق، راحت هذه الميليشيات تتقدم خطوة فخطوة نحو فرض سيطرتها على مرافق الدولة المدنية والعسكرية بقوة السلاح والمال الحرام، وباسم دين لم نسمع عنه ولم نشهد له مثيل طيلة حياتنا. وشهد العراقيون عملية سطو على ممتلكات رسمية وخاصة وفرض قواعد من السلوك لم يمر بها العراقيون حتى في عهود الحكم الاستبدادية السابقة. وتحولت أحياء ومناطق وأراضي زراعية ومؤسسات اقتصادية بقدرة قادر إلى ممتلكات لهذه الميليشيات، ولم يكتف هؤلاء باستملاك العقارات والمرافق الاقتصادية في العراق فحسب، بل في لبنان وطهران ولندن وعواصم أخرى. وقوى عود هذه المليشيات لتتحول إلى قوة عسكرية واقتصادية بمكانة دعائية ضخمة ومحطات راديو وتلفزيون فاقت مقدرة أية دولة على تأمين ذلك.

ولذا أصبحت كل الطرق ممهدة كي يشرع أبو عمر البغدادي بإعلان دولته "الإسلامية" في أربع محافظات عراقية وفي بعض المناطق السورية تحت راية طائفية مذهبية مزيفة بائسة، خدعت البعض من العراقيين، ومن شراذم من دول أجنبية وبدعم مالي وعسكري خليجي وتركي وغير تركي حسب اللون الطائفي، لينشر الموت والدمار والنهب فيها. هذه الخدعة والتمثيلية الدموية، سرعان ما تلقفتها فلول ومليشيات من لون طائفي آخر كذريعة لمواجهة "الخطر الطائفي الأول" الذي لا يعبر فقط عن التجاذب الطائفي الذي فرض على العراقيين بعد عام 2003 فحسب، بل أضحى تعبيراً عن التنافس بين الدول الإقليمية حول النفوذ والهيمنة على المنطقة، وبضمنها العراق. وهكذا وعلى عجل أضفيت الصفة الشرعية والرسمية على هذه الميليشيات بحج مواجهة المنافس الطائفي الأول، ليزداد عددها ولتضاعف هذه الميليشيات من بأسها مالياً وعسكرياً بعد أن وفرت تشريعات مجلس النواب الملتبس كل الإمكانيات لها كي تصبح قوة ذات تأثير عسكري وأمني ومالي، بعيداً عن رقابة السلطة الإتحادية والدولة العراقية، وبدعم وتخطيط وتوجيه من قبل الأطراف المتطرفة في الحكم في إيران.

وعلى غرار نهج المتحكمين المتطرفين في إيران، الذي اتبعوا طريق السطو على المال العام وامتلاك المرافق الاقتصادية الضخمة وتشكيل الميليشيات المسلحة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والشروع منذ الأيام الأولى باغتيال المئات من الشخصيات السياسية والدينية المعتدلة، راح أمثالهم في العراق يتبعون نصائح وتوجيهات أقرانهم المتطرفين الإيرانيين، وتحولوا إلى أتباع ينفذون ويتلقون أوامر من طهران للتدخل في لبنان أو في الشأن السوري وغيره. ويعترف بذلك أحد قادتهم أثناء تأبينه لقاسم سليماني، حيث عبر عن شكره لقاسم سليماني في وأد "الفتنة" في العراق. والفتنه هي مفردة يستعملها حكام إيران عند كل مظاهرة شعبية احتجاجية يقوم بها الإيرانيون ضد الحكم جراء تردي الأوضاع في إيران. وهي نفس المفردة التي استخدمها قيادي ميليشياوي عراقي لوصف الحراك الشعبي التشريني، الذي هز مضاجع المتطرفين في العراق، والتي بادر سليماني إلى تقديم النصائح لأقرانه العراقيين من أجل قمع المتظاهرين.

ومنذ ذلك الوقت قام المتطرفون المذهبيون بقتل ما يزيد على 800 ناشط تشريني، وآخرهم إغتيال إيهاب الوزني في كربلاء، وإصابة ما يزيد على 20 ألف ناشط وسجن وإختفاء أثر العشرات من الصحفيين والناشطين دون أن يعرف مصيرهم. اما الحكومة "العتيدة" فهي تكتفي فقط بتشكيل اللجان دون نتيجة، علماً أن الأجهزة الأمنية تعلم علم اليقين بمرتكبي هذه الجرائم الشنيعة ينتمون إلى الميليشيات منتشرون في مختلف الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية. ومن المفارقة أن لدى الحكومة وحدات مكافحة الإرهاب ولكنها تتردد في استخدامها لمواجهة الإرهاب المسلط والمستمر على العراقيين، هذه الوحدات التي أبلت بلاءً حسناً وبطولياً أثناء ملاحقة أشرار الدولة "الإسلامية" وتحرير الموصل ومحافظات أخرى. إن تردد الحكومة الحالية، رغم وعودها في تأمين الأمن للعراقيين، يشجع هذه الفلول على الإيغال في جرائمها ضد أبناء وبنات العراق. ومن ناحية أخرى لا نسمع أية ردود فعل قوية من جانب المؤسسات الدينية على إختلاف ألوانها، ولا حتى من غالبية الأحزاب السياسية ولا من مجلس النواب العراقي ولجانه الأمنية ولا رئاسة الجمهورية والسلطة القضائية، مع تردد مخل للحكومة العراقية في ملاحقة المجرمين.

ولم يبق أمام العراقيين سوى الشارع العراقي كي يطالب بالقصاص من المجرمين. وما على شبيبتنا من طريق سوى الوقوف بوجه هذه الهجمة الإجرامية الظلامية، وتوحيد الصفوف والقيام بحملة سلمية وطنية لردع هذه الممارسات وتقديم المجرمين إلى العدالة، وفضح الغلو والتطرف الديني، والعمل مع كل قوى الخير والعدالة في البلاد لتشكل جبهة رادعة لقوى الدمار والقتل والتخريب والفساد التي تقف مانعاً أم استقرار أرض السواد والجبل وإعادة إعمارها وإزدهار شعبها.   

عرض مقالات: